مهما زاد عددهن، تبقى المرأة التي تقود دراجة نارية في لبنان لافتة للنظر، فماذا لو كانت غايتها توصيل السيدات أو بمعنى آخر «تاكسي للسيدات»؟ تترجّل رنا كرزي عن دراجتها النارية السوداء بثقة عالية. تخلع الخوذة التي تغطي رأسها. تعرّف عن نفسها، ثم تقودك إلى حديث تلو الآخر بعفوية مفرطة. تدقّق في ملامحها فتحتار في تحديد عمرها. تارة تبدو شابّة عشرينية وأخرى سيدة أربعينية. تحاول أن تخرج من متاهتك وتسألها بصراحة، فلا تفلح، لأنه برأيها: «أمران لا تُسأل المرأة عنهما: الوزن والعمر».
تعود رنا إلى دراجتها، تدعوك للصعود خلفها، وتأمرك بلطف: «اجمدي، استرخي، وأعيدي ظهرك إلى الوراء». ثم تمتصّ خوفك، إذا كانت أول رحلة لك على متن الدراجة، عن طريق الثرثرة. وتقود بهدوء. رحلة لا تتجاوز الربع ساعة تشعرك بأن شوارع بيروت وأزقّتها حفظت رنا عن ظهر غيب. لا تعرقل المطبّات سيرها. ولا تزعجها أبواق السيارات وصخب المدينة. لقد تآلفت مع هذا العالم الذي تدور فيه منذ أن يرى الضوء حتى تسكنه العتمة. تأخذ سيدة من منزلها إلى عملها ثم تعيدها مساءً، وتوصل أخرى إلى مشاويرها المخطط لها مسبقاً والتي تطرأ فجأة. تردّ على السيدات اللواتي يستكثرن بدل التوصيل الذي حددته بسعر أعلى من سعر السرفيس: «آتي أحياناً من مكان بعيد لآخذ السيدة من أمام منزلها وأوصلها مباشرة إلى المكان الذي تقصده».
تعترف أن عملها «يستنزفها»، ويقضم معظم وقتها. تبدأ نهارها بالمشي وممارسة الرياضة واحتساء القهوة في عين المريسة «لأشحن طاقة إيجابية». ثم تعطي دروساً خصوصية لقيادة الدراجة النارية للفتيات والنساء، قبل أن تبدأ توصيل زبائنها الدائمين وغير الدائمين إلى وجهتهم منذ السادسة والنصف صباحاً وحتى الثامنة مساء. الاستراحة الوحيدة التي لا تفوّتها هي تأدية صلاتي الظهر والعصر في الجامع. ويظهر التعب أيضاً على دراجتها النارية من خلال الصوت الذي تصدره في نهاية يوم طويل من الدوران، لذا «أدعو لها بالصحة والعمر الطويل، ولا أوصّل أكثر من راكب واحد عليها في آن حفاظاً على سلامتها». فشراء دراجة أخرى «يهدّ الظهر».
لا ترفض رنا طلب توصيل أي زبونة، حتى يوم الأحد، وتحاول أن تنسّق المواعيد بين الزبونات لتحافظ عليهن. مع ذلك لا ترى أن العلاقة تجارية مع «صديقات بتّ أعرف أخبارهن وأسرارهن». وهي لم تتخلَّ عنهنّ في أوج الأزمات. خلال انتفاضة 17 تشرين، عندما عمّت التظاهرات الشوارع وأقفلت الطرقات بالدواليب المشتعلة ظلّت توصّل زبونتها المعالجة الفيزيائية إلى عملها في مار مخايل. وخلال الإقفال العام الذي رافق انتشار جائحة كورونا، تحولت إلى «دليفري» لتوصيل احتياجات زبائنها. وحدها أزمة المحروقات عطلت عملها. صحيح أنها كانت السيدة الوحيدة التي تقف في طوابير المحطات ما يعفيها من الانتظار، لكنها اكتفت بخمس زبونات لتحافظ على البنزين وتستخدمه عند الضرورة.
تعلّم الفتيات قيادة الدراجات النارية لكنها فشلت في إقناع أحد بتأسيس شركة


البعض خفن في البداية من ركوب الدراجة النارية لكن بحسب رنا «جميعهن اليوم يفرحن بالطيران في الهواء الطلق». تتذكر «نهفات» الشتاء وتضحك. فمع أنها تركّب خيمة تحميها من الأمطار والرياح لا تسلم مع الركاب من الماء الذي يملأ الشوارع وتقذفه السيارات عليهن. على إشارات السير، تصلها تعليقات الرجال بين مشجعين وساخرين. أحدهم قال لها مرة: «والله صارت نساء طريق الجديدة تقود دراجة نارية»، فكان ردّها: «كل عمرنا قبضايات»… من دون أن يزعجها ذلك أبداً.
بدأت رنا عملها في توصيل السيدات على الدراجة النارية منذ سنتين وشهرين، عندما طلبت منها صديقتها توصيل ابنها إلى النادي، «لماذا لا تكون هذه مهنتي: توصيل السيدات»، قالت في نفسها بعدما عطلت انتفاضة 17 تشرين عملها كحارسة في شركة. عرضت خدماتها على واتسآب ولاقت ترحيباً كبيراً، فوسّعت نطاق نشر «الإعلان» ليشمل فايسبوك. وها هو يومها مزدحم بطلبات التوصيل... والتصوير مع وسائل إعلامية محلية وأجنبية. فكّرت في توسيع المشروع وتأسيس شركة لكنها لم تجد فتيات «متمرّدات» مثلها، يرضين العمل «تاكسي موتو».