«بحبك يا لبنان، كيف ما كنت بحبك»
اقتبس السفير الياباني السابق في لبنان، تاكيشي أوكوبو، هذه العبارة من أغنية لفيروز، ليعبّر عن تعلّقه بلبنان الذي أقام فيه ثلاث سنوات. هي واحدة من تغريداته التي حرص فيها على نقل صور جميلة من لبنان، قبل أن يودّع اللبنانيين في 24 تشرين الثاني الفائت باقتباس آخر، من الأديب اللبناني جبران خليل جبران «المحبة لا تعرف عمقها إلا ساعه الفراق». حظيت هذه التغريدة بأكثر من 11 ألف إعجاب، ما كشف عن حفاوة شعبية محلية تكاد تكون فاقت موقعه الدبلوماسي.



ثلاث سنوات قضاها السفير الياباني في الربوع اللبنانية، متنقلاً بين مناطقها التي أصرّ في كلّ مرة على عدم التمييز في ما بينها. عُرف أوكوبو بنشاطه على شبكات التواصل بوصفه السفير الذي يدأب على الترويج لمشاريع سفارته الإنمائية في لبنان، وإسهامها في مساعدة اللبنانيين على حلّ أزماتهم، خاصة في قطاع الطاقة. بقيت نظرته إيجابية، حتى عندما يتحدّت عن الأزمات، راسماً صورة جميلة عن لبنان، لا تقتصر على بلد يحتضر اقتصادياً، بل محرّضاً على إمكان استنهاض مقوّماته الحضارية والسياحية والجمالية. يشيد بحضارة لبنان من خلال صور لأعمدة جوبيتير في بعلبك «كلما رأيت تلك الآثار للحضارة القديمة والعظيمة التي يكتنزها لبنان، لا يسعني إلا أن أعمّق تعلقي بهذا البلد»، ويتغنّى ببيروت المضاءة ليلاً... من دون أن ينسى الإشارة إلى أن هذه الإضاءة تتمّ بمعية مولدات الكهرباء. يشارك في قطاف الزيتون في كفركلا، ويأسف لأن منزله تعرّض لإطلاق نار عشوائي «أنا حزين جداً لما يحصل. رجائي أن تكفوا عن إطلاق الرصاص في الهواء كي لا يتحوّل ذاك إلى ضرر أو مأساة عند الآخرين».



تشير تجربة السفير تاكيشي أوكوبو، عبر تويتر، إلى مسار دبلوماسي دمث، عرف من خلاله كيف يوظّف مهمته في لبنان إيجابياً، وكيف يستقطب اللبنانيين بشتى انتماءاتهم إلى منصته، وقد تجلّى ذلك في تفاعلهم مع تغريداته الوداعية. تفاعل أخرج السفير من عباءة ضيقة لمهامه، من دون أن يتجاوز الأعراف والقوانين المرسومة لحركته الدبلوماسية.
لم تكن تجربة القنصل الصيني، (أبو وسيم) (CAO Yi)، والذي انتهت مهمته في تموز الفائت، مختلفة كثيراً. بالعكس، تميّز الرجل بحسّ النكتة الذي أغضب المعلّقين منه مرة، عندما تحدّث عن نفق سليم سلام فاستغرب «أول مرة أعرف هناك عدد قليل من الأصدقاء اللبنانيين لا يحبون المزحة، متل عنا بالصين».



خمس سنوات قضاها هنا، لم يقصّر فيها بمغازلة لبنان والتغنّي بجماله، مردّداً بدوره أغنية فيروز «بحبك يا لبنان». استطاع أبو وسيم خلق علاقة ودّية عالية مع اللبنانيين، بفضل استخدامه الجيّد للغة العربية، ومعرفته بالتفاصيل اللبنانية، راسماً مساراً تفاعلياً مرّر من خلاله إلى جانب حسّ الفكاهة رسائل بلاده والترويج لصورتها، وتموضعها سياسياً واستراتيجياً، قبل أن يودّع «الأصدقاء اللبنانيين الأعزاء» في تموز الفائت معلناً انتهاء مهمته في «لبنان الجميل».



برودة أوروبية
في مقابل هذين النموذجين الآسيويين، تبرز برودة واضحة لدى معظم السفراء الأوروبيين المعتمدين في لبنان، والذين تقتصر حركتهم على الترويج لمشاريع بلادهم الإنمائية، من دون الدخول في أيّ نوع من التفاعل مع المغرّدين، أو حتى استخدام لغتهم، كما هي حال السفير الألماني أندرياس كيندل (أكثر من 6 آلاف متابع/تويتر)، والمنسّقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان جوانا ورونيكا (4 آلاف متابع/تويتر)، التي تغرّد دوماً باللغتين العربية والإنكليزية، وفي الوقت عينه، لا تعير أهمية لأي تفاعل على صفحتها. هايمش كاول أيضاً، السفير البريطاني في لبنان المعيّن حديثاً (4 آلاف متابع)، يكتفي بالترويج لنشاطات بلاده ولمؤسساتها في لبنان، من دون أي تفاعل يُذكر.
تقابل هذه البرودة، حركة المتحدّث الإعلامي باسم «الاتحاد الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» لويس ميغيل بوينو (39 ألف متابع /تويتر)، المشجع لفريق المغرب في مونديال كرة القدم، إذ غرّد عشية المباراة الأخيرة: «ليفز الأفضل، لكن سير سير سير». يغرّد بوينو باللغة العربية، ويحرص على شكر المتابعين الذين يسعون إلى «تحسين» هذه اللغة، مصرّاً على استخدامها، ومعبراً عن فرحته في حال وجد أن هذه اللغة مستخدمة في دول «الاتحاد الأوروبي». بوينو لا يفوّت فرصة إلا ويشيد فيها بالحضارة العربية، وبالزخارف والفنون الإسلامية، ليؤكد على تداخل الحضارات ما بين الشرق والغرب. ولا ينسى أن يعرّج كذلك على لبنان ويدعو من خلال «قمة المناخ» في «شرم الشيخ» على سبيل المثال، الى الحفاظ على ثروة لبنان الحرجية، مغرّداً بالقول :«أليس هذا الجمال يستحق الحفاظ عليه؟».



إيران، السعودية وأميركا
تستحق صفحات كلّ السفارة الاميركية في بيروت (لا صفحة خاصة بالسفيرة دوروثي شيا)، السفير السعودي وليد البخاري والإيراني مجتبى إيماني بحثاً أكثر، إلا أنّ تصفحاً سريعاً يكشف عن نشاط لافت لصفحة السفارة الأميركية في بيروت، التي يتجاوز عدد متابعيها على تويتر الـ73 ألف متابع. الترويج لنشاطاتها هو السمة الأبرز، فتتحدّث عن التشبيك مع المؤسسات اللبنانية، و«الدعم» الذي تقدّمه الولايات المتحدة للبنان ولشعبه، عبر إغداق المتابعين بأرقام ملايين الدولارات التي تُصرف في الداخل اللبناني سيما تلك التي تندرج ضمن مساعدات الجيش. لا يقيم حساب السفارة الأميركية على تويتر أي اعتبار للمغرّدين، إذ يكتفي بنشر مضامين ترويجية وتسويقية لا تخلو من التسييس.
تحوّلت الدبلوماسية من بريد متنقّل بين غرف مقفلة إلى التداول العلني


أما السفير السعودي وليد البخاري، الذي يبرز بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي (أكثر من 129 ألف متابع/تويتر) فيتفاعل أحياناً مع المعلّقين على منشوراته، ويعيد تغريد ما تنشره الصحافة عن نشاطات السفارة أو أخبار السعودية. أما تغريداته فلا تخلو من تسييس واضح، حتى عندما يكون في معرض توجيه تحية بمناسبة وطنية مثل عيد الاستقلال.
في المقابل، تبدو صفحة السفير الإيراني مجتبى أماني (6 آلاف متابع) أكثر هدوءاً، إذ تتوزّع تغريداته بين إبراز النشاطات التي تقيمها السفارة في لبنان، وإعادة تغريد مواقف مسؤولي بلده من القضايا الراهنة، من دون الكثير من التفاعل.



الدبلوماسية الرقمية وتدخّل السفراء
يلفت أستاذ العلاقات الدولية محمد حيدر إلى تطوّر الحراك الدبلوماسي، الذي «كان يقتصر في السابق على العلاقة بين السفراء وحكوماتهم، لندخل بعدها عصر "دبلوماسية الهاتف"، ثم العالم الرقمي في العقدين الأخيرين». ويقسّم حيدر هذه الدبلوماسية بين تدخل سلبي وآخر إيجابي، إذ يتجلى الأخير بحسب حيدر في «السعي لنشر ثقافة سياحية وثقافية وإبراز مصادر قوة البلد المضيف، كحركة السفير الياباني السابق في لبنان تاكيشي أوكوبو». أما التدخل السلبي، فيعرّف عنه كنوع من انتقاص للسيادة وكمخالفة وخرق لاتفاقية «فيينا للعلاقات الدبلوماسية» (1961) التي رسمت الخطوط العريضة لحركة السفراء في البلدان المعتمدة، وعرّجت على كيفية قطع العلاقات بين الدول، وعلى الحصانة الدبلوماسية.
برأيه، تنحصر علاقة السفير مع رئيس بلاده ومع وزارة خارجيته، لكن مع دخولنا العالم الرقمي، أُقحمت عوامل أخرى في هذه المهام وخرجت من السرية إلى العلنية، بفضل منصات «مجانية» حوّلت الدبلوماسية من بريد متنقل بين غرف مقفلة إلى التداول العلني، وسط تفاعل حيّ من الجمهور، وبالتالي تأثير مباشر عليه، في تمرير الرسائل السياسية. ويذكّر بما حصل مع وثائق «ويكيليكس» المسرّبة عن لقاءات دبلوماسية خرجت من أروقتها السرية، وأضحت في متناول الجميع، أو بتغريدات بعض السفراء العرب الذين يجدون في هذه المنصات فرصة لفرض إملاءات على اللبنانيين والتدخل في شؤونهم، وسط غياب تام للدور السياسي اللبناني، في تنفيذ مهمته في استدعاء هؤلاء السفراء وإفهامهم حدودهم في عالم الدبلوماسية.