«جارنا زلمي محترم، وابني وَلد زغير بعدو ما بيفهم». بهذه الكلمات، يختصر إياد لـ«القوس» إجابة والدته للمرشدة الصحية في مدرسته الابتدائية، قبل 17 عاماً، بعدما أخبرها بالاعتداء الجنسي (فسّره حينها بلعبة الطبيب والمريض) الذي تعرّض له من قِبل الجار «المحترم» الذي كانت والدة إياد تتركه في رعايته حين تضطر إلى الخروج من المنزل. لم تفاتح المرشدة أحداً بالأمر، وبهذه الكلمات نجا الجار من العقوبة، «وأنا أكلت قتلة من إمّي ما بنساها لحد اليوم». يقول إياد إنه تخطّى الأمر، وهو يعمل، على نطاق ضيّق، لتوعية من حوله من أقرباء وأصدقاء على ضرورة الحذر من الجيران وعدم ترك الأطفال في عهدتهم.
الاشتباه به أدّى إلى طرده
«سنكري، حرامي ومغتصب». دبّ الذعر بين سكّان مبنى في إحدى بلدات قضاء النبطية، بعدما أشيع بأنّ المستأجر الجديد، في الطابق الثاني من المبنى، سارق ومغتصب، إذ أقدم على سرقة عدة منازل أثناء عمله «سنكرياً» في الضاحية الجنوبية، وضُبط متلبّساً أثناء محاولته اغتصاب فتاة في العاشرة بعدما اقتادها إلى مبنى مهجور، فطُرد وعائلته من المنطقة. تقول فاطمة التي تسكن في الشقة المقابلة: «مظهره يوحي بأنّه آدمي، لكن الحمد لله الدنيا زغيرة وعرفنا أخباره بسرعة، وإلّا كنّا كلنا بخطر، أنا وإمي عايشين لحالنا، وفي شقق بالمبنى أصحابها مغتربون». بعد شيوع الخبر، طلب صاحب المبنى من المستأجر الجديد ترك الشقة.

ماذا يجري في الطابق الأرضي؟
عند السادسة صباحاً، استيقظ وليد وعائلته وسكّان المبنى، في إحدى بلدات قضاء الشوف، على صراخ الجيران الجُدد في الطابق الأرضي، وطرقات عنيفة على باب شقّتهم. خرج مرعوباً إلى شرفة شقّته ليجد آليتين عسكريتين للجيش تحت المبنى المؤلف من أربع طبقات. بعد ساعة من الصراخ، شاهد الجنود يقتادون ابن الجيران مكبّل اليدين، لكن سرعان ما أُطلق سراحه بعد مدة قصيرة من دون أن يعرف أحد ماهيّة التهمة. ورغم أنّ أفراد الأسرة التي تسكن في الطابق الأرضي ودودون ويبتسمون للجيران ومتعاونون في دفع تكاليف صيانة المبنى، إلّا أن سكّان المبنى لا يزالون حذرين بعدما أصبح الجيران الجُدد موضع شُبهة وإزعاج دائمين، مع استمرار صراخهم العالي وتوجيه الشتائم بعضهم إلى بعض كل ليلة.

سلاح وترهيب
تقول منال لـ«القوس» إن جارتها تكاد تُفقدها صوابها، «صرلها 5 سنين بوجّي، حشورة كتير، بتفتح الباب وبتصير تسألني وين رايحة؟ ومن وين جايي؟ وقدّيش سعر أغراضي..». رغم ذلك، تخشى أن تعامل جارتها بفظاظة أو أن «تضعها عند حدّها»، لأن ابن الجارة «يحمل سلاحاً على خصره، ومعروف في الحيّ أنّه بيحبّ المشاكل ومدعوم من جهة حزبية». ولا تتوانى الجارة في كل مناسبة عن التغنّي بـ«بطولات» ابنها. تُضيف منال: «كل الجيران يتفادون مواجهتها لأن مش بعيدة تطالنا رصاصة من سلاح ابنها».
لكن جار منال «المدعوم» قد يكون أقل خطراً من جار ليلى: «ابن دولة، بيطلع لعندي ببدلته، فرده على جنبه وبيهددني إذا بعد بزعجه بتحريك العفش». تجزم ليلى أن جارها يفتري عليها، فهي تحرص ألا تصدر أي حركة قد تزعجه، لكنّه يطرق بابها كل فترة مهدّداً. وهي أصبحت تخشى ترك ابنتها البالغة من العمر 15 عاماً وحدها في المنزل، وبدأت بالتفكير جدّياً ببيع شقّتها.

رومنسية الجار
«كيف حالك يا جار، لَو تعرف شو صار، سرَقنا من ورداتك وردة وشكّلنا الزنّار». هي كلمات للأخوين رحباني، غنّتها السيّدة فيروز، يطغى عليها الطابع الرومنسي، كما على معظم الأغاني التي تناولت الجار. مقارنة بالروايات والسينما التي نقلت الجيرة بقطبيها الإيجابي والسلبي، بسبب قدرتها على جمع شخصيات عديدة من طباع وثقافات مختلفة، وهذا ما يجعل الجيرة مادّة غنيّة لِحَبك الكثير من القصص والأشعار.
فيقول أحد الشعراء: «يلومونني إن بعت بالرخص منزلي ولم يعلموا جاراً هناك ينغّص، فقلت لهم كفوا الملام فإنّما بجيرانها تغلو الديار وترخص». وبالانطلاق من تجارب الجيرة غير الجيّدة التي ذُكرت، وفي ظل ما نشهده من تغيّرات في العلاقات بين البشر بشكل عام، وبين الجار وجاره بشكل خاص، هل ولّى زمن عبارة «الجار قبل الدار»؟

ماذا لو كان جاري مجرماً بالفعل؟
المجرم هو الشخص الذي أدين بارتكاب جريمة، والتي يتم تعريفها على أنها فعل يعاقب عليه القانون. قد يكون الجار الذي يُعدّ مجرماً قد أدين بجريمة وقضى فترة في السجن، أو ربما لا يزال يواجه تهماً جنائية، أو فاراً من وجه العدالة. من المهم ملاحظة أن كَون هذا الفرد مجرماً لا يعني بالضرورة أنّه شخص سيّئ أو شديد الخطورة. يرتكب الناس أخطاء كثيرة، وفي بعض الأحيان تؤدي هذه الأخطاء إلى إدانات جنائية. ومن الممكن أيضاً أن يتم اتهام شخص أو إدانته زوراً بجريمة لم يرتكبها. قد تبدو الأمور معقّدة في هذه الحالة، وقد يكون الخوف مبالغاً به في بعض الأحيان، لكن لا مانع من اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية أنفسنا وعائلاتنا من المخاطر المحتملة.
إن قانون العقوبات اللبناني (النبذة 6، في منع الإقامة) يمنع من الإقامة المحكوم في حال الحكم عليه بعقوبات معيّنة، ما لم تقرر المحكمة خلاف ذلك. ومن الطبيعي أن يقرره قانون العقوبات لمنع تمادي المشاكل بين المحكوم وأهل المجنيّ عليه، ولتفادي عمليّات الثأر لاعتبار القانون أن وجود الجاني في مكان ارتكاب الجرم قد يؤدي إلى حدوث توترات ومشاكل مع المجنيّ عليه أو أقربائه. وقد جعله القانون إلزامياً في حالات معينة، واختيارياً في أخرى (راجع القوس، «المنع من الإقامة»، عدد 29 تشرين الأول 2022).

تجنّب الأحكام المسبقة
قد يكون مفيداً أثناء التعامل مع جار غير ممنوع من الإقامة، تجنّب وضع أحكام مسبقة حوله بناءً على تاريخه الإجرامي، ومحاولة معاملته باحترام وإنصاف، للابتعاد قدر الإمكان عن لصق «الوصمة الجنائية» بهذا الفرد، معزّزين بذلك العوائق التي تقف أمام اندماجه في المجتمع.
وهو ما حدث مع علاء، من بلدة في قضاء بنت جبيل. فبعدما حوكم عام 2010 بتهمة تزوير عملات أجنبية، وتسلّم أخوه العمل مكانه «شوفير فان» لإعالة عائلته، امتنع معظم أهالي البلدة عن ركوب الـ«الفان» لأنه من «مال حرام». ولم تشفع سُمعة أخيه الحسنة بالتخفيف من وصمته، بينما تعاطف البعض في البلدة مع عائلته مُبدين رأياً آخر. بعد خروجه من السجن ومضي كل تلك السنوات، لا يزال علاء يحمل نقمة على ما فعله أهالي بلدته. يقول: «أعترف أنّي أخطأت لكن ما ذنب أخي وعائلتي؟». يشير علاء إلى أن أحد نزلاء السجن أخبره أنّ جاره يزور عائلته باستمرار وينعته بالبطل بسبب قتله لـ«الغريب»، أي لشخص من جنسية أخرى، ويقول: «يعني لو كنت مزوّر وناصب على حدا مكروه بالضيعة، كنت يمكن صرت بطل». فهل من الممكن أن يُصبح الجار المجرم بطلاً ومرحّباً به إذا كان جرمه يصبّ في مصلحة جاره الآخر؟

.. أو «خِرّيج حبوسة»
نظرية الوصم (Labeling)، هي من النظريات التي تحاول تفسير الجريمة، والتي تَنسب الأخيرة إلى بنية المجتمع. وتكمن أهمية هذه النظرية في ما لها من تأثير كبير علينا جميعاً، في الأسرة والمدرسة والعمل والمجتمع ككل. ومن أوائل الكتب التي تناولت هذه النظرية وتطبيقاتها على دراسات السلوك المنحرف، كتاب «الغرباء» (Outsiders, 1963) لمؤلّفه عالم الاجتماع الأميركي هاورد سول بيكر.
وجود الجاني في مكان ارتكاب الجرم قد يؤدي إلى توترات ومشاكل مع المجنيّ عليه أو أقربائه

حيث يذكر بيكر في كتابه (ص.9) تحت فقرة عنوانها: «الانحراف واستجابة الآخرين»، بأن «أسباب الانحراف توجد في العوامل الاجتماعية» التي تدفع الفرد نحو الانحراف. فـ«السلوك المنحرف هو السلوك الذي يصنّفه الناس». أي أنّ الفعل الذي يرتكبه الشخص يكون نتيجة لتطبيق القواعد والعقوبات التي يضعها الآخرون في المجتمع عليه، أو على الجاني -حتى بعد تنفيذ عقوبته. كمثل وصمه الدائم بـ «إجا المجرم»، «هيدا خرّيج حبوسة»، أو «صاحب سوابق». وهذا بالتالي قد يُشكّل لدى المَوصوم حالة نفسية معيّنة قد تجعله غير قادر على الاندماج مع المجتمع، أو قد تدفعه نحو ارتكاب جرم جديد، أو الانضمام إلى شبكات اجتماعية منحرفة تؤيّد سلوكه السابق، وترحّب به كفرد طبيعي داخلها، خاصة أنّ «السجون في لبنان باتت «معاهد تدريب» على ارتكاب الجرائم، وأماكن للتجمع والتنسيق والتجنيد والتخطيط لمزيد من الجرائم، ولا بد من إصلاحها لتتمكن من المساهمة في تصحيح السلوك الجنائي وخفض مستوى الجريمة» (راجع «القوس»، «المؤسسة العقابية لم ترَ النور»، عدد 8 تشرين الأول 2022). كذلك وضع آليات لإعادة تأهيل ودمج السجناء في المجتمع، وبالتالي تعزيز ثقافة «عدم الوصم». فالعقاب الاجتماعي يبقى أشدّ وطأة على الجاني من عقاب النظام القضائي، وقد لا يتحقق إصلاح السلوك الجنائي من دون التعاون والتكاتف بين الأطراف الثلاثة: الشرطة، القضاء والمجتمع.



Gazette الرسمية

عيّنة من مراسيم تمنع عدد من المحكومين من الإقامة في أماكن ارتكاب الجريمة:

انقر على الصورة لتكبيرها