تكثر المطالبة في لبنان بعودة النازحين السوريين إلى ديارهم، من جهة، والانصياع لرغبة الغرب في تأجيل هذه العودة، من جهة أخرى. وكلا الطرفين لديه حججه أو أهدافه السياسية، من دون النظر إلى الناحية الإنسانية لشريحة واسعة من السوريين الذين ضاقت بهم السبل، فوجدوا لبنان ملاذاً قريباً متاحاً لهم، ونزحوا إليه على مراحل، حتى بلغ عددهم مليونين و80 ألف نازح، بحسب ما أعلن المدير العام للأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، الأسبوع الماضي، مع بدء انطلاق مرحلة جديدة من رحلات العودة.لا أظن أن عاقلاً لا يقتنع بتراجع قدرة اللبنانيين على تحمل أعباء إيواء هذا العدد من النازحين، في ظل ما يعانونه من حالة كارثية، ومحنة حقيقية تعصف بكافة جوانب الحياة، وتهدد بانفجار اجتماعي عنيف، بسبب استشراء الفقر والبطالة، وانعدام الخدمات الحكومية الضرورية، والانهيار الاقتصادي الذي أفقر الدولة، وأضعف قدرتها على دعم الرغيف والمواد الغذائية والمحروقات وسواها، وأفقر الطبقة الوسطى، وجعل نسبة الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان تصل إلى 82% من السكان (بحسب الإسكوا). لذا كثيراً ما دعونا وندعو المنظمات الإنسانية في العالم إلى التضامن معنا، والمساهمة في التخفيف من وطأة ما يتعرض له لبنان من إفقار، وهدم للبنى الاجتماعية والقيم الأخلاقية.
كما لا يمكننا القفز فوق الحالة الإنسانية البائسة التي يعيشها النازح السوري في مخيمات النزوح، في ظل غياب مقومات الحياة الأساسية، والنظر بعين واحدة إلى الأزمة، ضاربين عرض الحائط ما يعانيه السوري الذي تهدم بيته وقَتلتْ الحرب أفراداً من عائلته، ويعيش حالة قلق دائم على عائلته ومصيره. إنما واجبنا النظر إلى الموضوع من ناحية إنسانية، والبحث عن حلول لا تنفجر في وجوه أولئك المغلوب على أمرهم، بل علينا الوقوف ضد الثقافة السلبية التي يعتمدها البعض تحت عنوان مخاصمة «الغريب»، وهي نظرة تعبّر بوضوح عن العنصرية. وتكفي مراقبة الكم الهائل من ترددات هذه النظرة في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وفي سلوك اللبنانيين في حياتهم اليومية. إضافة إلى ذلك مبالغة البعض في إظهار نوع من الفوبيا من انتشار العدد الكبير من نازحي سوريا في المناطق اللبنانية.
يترافق هذا الموقف، على المستوى الدولي، مع ممارسات سيئة في الغرب تجاه اللاجئين، ورفض واضح لتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة، وإقفال الحدود، وتوسع دور الأحزاب اليمينية العنصرية المتطرفة، وطرد اللاجئين عند حدود الدول الغربية، غير آبهين بموت العديد منهم غرقًا في البحار والمحيطات والعواصف الجليدية. في وقت يستقبلون بكل رحابة اللاجئين القادمين من أوكرانيا، ذوي العيون الزرق والبشرة البيضاء.
واجبنا البحث عن حلول لا تنفجر في وجه أولئك المغلوب على أمرهم بل علينا الوقوف ضد ثقافة مخاصمة الغريب


لسنا ضد استقبال الأوكرانيين والاهتمام بهم وبسواهم من بعض المناطق المتوترة في الغرب، لكننا ضد ازدواجية المعايير في التعاطي بتمييز صارخ بين مهجّر من الغرب وآخر من الشرق. لأن في ذلك عين السلوك العنصري الذي نقاومه في كل المؤتمرات الدولية التي نحضرها.
إن مشكلة النازحين واللاجئين التي تخضّ العالم اليوم، بلغت حدوداً خطرة، كونها تزداد اتساعاً، ويتضخم عدد ضحاياها سنة بعد سنة، ما دام العالم يعيش انفجارات لا تهدأ، وحروباً لا تخمد نارها. إذ تخطى عدد الأشخاص الفارين من الحروب والعنف والاضطهاد وانتهاكات حقوق الإنسان مئة مليون شخص، وتلك أعلى نسبة بلغها العالم، خصوصاً بعد تدفق اللاجئين جرّاء الحرب الروسية - الأوكرانية، ونتيجة استمرار الصراعات والحروب التي تقتلع السكان من أوطانهم وترميهم في أصقاع العالم.
مع ذلك، ما زالت الأزمة السورية أكبر أزمة لجوء في العالم، بواقع 8 ملايين لاجئ سوري خارج بلادهم ينتشرون في أكثر من 127 دولة، إضافة إلى 6.7 مليون نازح داخل حدود البلاد. وما زالت المنطقة العربية تشهد حروباً متنقلة، من العراق إلى ليبيا واليمن وفلسطين والسودان ولبنان، وسوى ذلك من بؤر الصراع التي «يهديها» الغرب لبلادنا، ويحرّكها، ويسلحها ويخطط لها، وعندما يلجأ إليه الهاربون من النيران التي أضرمها يستقبل منهم القليل ويطرد الجزء الأكبر بقسوة وعنف، غير مكترث بحياتهم كبشر، ولا بحقوقهم وكرامتهم الإنسانية.