لا تعدو نتائج اجتماع المجلس الوزاري المصغّر في كيان العدوّ، في 6 تشرين الأوّل 2022 للردّ على مُقترح الوسيط عاموس هوكشتين والإعتراضات اللبنانية على هذا الطرح، كونها رفعاً للسقوف من العدوّ لتحصيل مزيد من المكاسب، ولتفريغ الإعتراضات اللبنانيّة من محتواها. فالإتفاق الوشيك مصلحة للعدوّ قبل أن يكون مصلحة للبنان. فمكسبهم منه أكيدٌ وفوريّ، ومكسبنا مُحتملٌ ومؤجّل. واتّفاق كهذا يعني هدوءاً طويلاً في المياه البحريّة الجنوبيّة يحتاجه الكيان للشروع في إنتاج الغاز الوفير من الحقول المُكتشفة في المياه العربيّة المحتلّة، وآخرها ما أعلنت عنه شركة «إنيرجيان» أول من أمس، وتصديره لأوروبا المتعطشة لهذا الغاز كبديل جزئي عن الغاز الروسي، وما يعنيه ذلك من فوائد اقتصاديّة جمّة بسبب الأسعار التاريخيّة للغاز، والتي يبدو أنها ستستمرّ كذلك إلى أجلٍ طويل.لبنان يدفع اليوم ثمن سوء الإدارة والتفريط الذي لحِقَ بملفّ ترسيم الحدود البحريّة منذ 2007، مروراً بالـ 2011 ولغاية الآن. آخر الفُرص التي ضيّعها الممسكون بالملفّ في لبنان كانت بالتهميش والقتل التدريجي للخطّ اللبناني 29، والركون الى الخطّ البائد المشكوك المنشأ 23 كسقف للمطالب اللبنانيّة والحقّ اللبناني. أمّا حصر النقاش في ما خصّ الثروات جنوب الخطّ 23 بحقل قانا المُحتمل، فلم يكن إلّا تعميةً عن ثرواتٍ مماثلةٍ مُحتملةٍ أخرى تمتدّ عبر هذا الخطّ جنوباً. والمعضلة هي أنّه حتّى في ما خصّ حقل قانا المُحتمل،فإن الإتّفاق يُعطي «حقّاً ما» للعدوّ بحصّة في هذا الحقل المحتمل. والخوف أن يحتوي الإتّفاق، حتّى بعد التعديلات التي طلبها لبنان، على أفخاخٍ ينفذ منها العدوّ لتعطيل التنقيب والإنتاج من مكامن الحقل المحتملة.
فبحسب قواعد ترسيم الحدود البحريّة الدوليّة المدوّنة في المواد 15 و74 و83 من اتّفاقيّة الأمم المتّحدة لقانون البحار، والتي تعكس العرف الدولي في هذا المجال، فإنّ النزاع البحري الحقيقي بين لبنان وكيان العدوّ هو بين «خطّ هوف» الذي يعطي كامل التأثير لصخرة تخليت والخطّ اللبناني 29 الذي لا يحتسب أيّ تأثير لهذه الصخرة بلحاظ مجافاة ذلك التأثير لمبدأ الإنصاف. وقد جاءت نتيجة الحكم القضائي عن محكمة العدل الدولية، في 12 تشرين الأوّل 2021 حول نزاع الحدود البحرية بين كينيا والصومال، سنداً إضافيّاً لمتانة الخطّ الّلبناني 29. فالاتفاق الوشيك يعطي كيان العدو أكثر من 80% بين هذين الخطّين أي ما يُقارب 341 كلم2 من أصل 1777 كلم2. وهذا الإتّفاق يدور حول الخط 23 المولود في كيان العدوّ على ما تُشير كلّ الدلائل، والمفتقر الى أيّ سند قانوني بحسب إتّفاقيّة الأمم المتّحدة لقانون البحار، ويغفل قوّة الحقّ اللبناني بالخط 29.
منطقُ «ليس بالإمكان أكثر ممّا كان» الذي يُكرّره الممسكون بالملفّ لا يستوي. فالفرصة التاريخية كانت في المتناول للحصول على أكثر بكثير من حقوقنا بثرواتنا الجنوبيّة ممّا يُعطيه إتّفاق اليوم. فالزخم المتأتي عن الأسعار الخيالية للغاز وحاجة أوروبا لتنويع مصادر الغاز من جهة، والدعم غير المسبوق الذي أمّنته المقاومة للمفاوض اللبناني، من جهة ثانية، هذا الزخم وهذه الفرصة لن يتكرّرا. لبنان الرسمي، لسوء حظنا، قزّم المطلب اللبناني ووضع سقفاً لا يرقى إلى تلك الفرصة. العدوّ، من جهته، لن يفوّت، على الأرجح، فرصة اتّفاق كهذا. ولكن، يبقى السؤال الأهم: المقاومة كانت شديدة الوضوح في خياراتها في حال رفض العدوّ التسوية المقترحة لعتوّه وغطرسته وسوء تقديره لحافّة الهاوية التي يمشي عليها. ما هي خطة الممسكين بالملف في لبنان في هذه الحالة؟ أيّ شيء غير التثبيت الفوري للحق اللبناني بالخطّ اللبناني 29 سيكون إمعاناً بالتفريط وسوء الإدارة.
القرارات الدوليّة والمراسلات والكتب ما استعادت يوماً حقّاً في صراعنا مع كيان العدوّ، بدءاً من القرار 242 ووصولاً للقرار 425. كلّ حديث عن تحصيل لبنان لحقوقه الجنوبيّة عبرالضغط الدبلوماسي وتعديل المراسيم حصراً هو ترّهات. فالعدوّ يفهم لُغة واحدة هي لغة القوّة عند الدفاع عن الحقوق المشروعة. والإتّفاق الوشيك، على إجحافه، ما كان العدوّ ليرضى به الّا تحت ضغط المقاومة وهو من هذا المنظار، بلا شكّ، سابقة ولا تقلّ نتائجه من منظور الردع والتحول الاستراتيجي عن نتائج حرب تمّوز. أمّا الأصوات المعترضة داخل كيان العدوّ على الإتّفاق وعلى ما صُوّر بأنّه تنازل كامل للبنان، فمردّها تعوّد طفل الإستعمار المُدلّل على الحصول على كلّ شيء، لذا لم يرُق له بالتالي «التنازل» حتّى عن القليل.
يبقى التذكير بالمنطلق الأخلاقي الثابت لما يحدث: فلسطين من نهرها الى بحرها مُحتلّةٌ سليبة ولا حقّ في برّها وبحرها وثرواتها لغُزاةٍ قدِموا واستُقدِموا من أقطار الأرض. وحتّى يأتي ذلك اليوم الذي تعاد فيه الحقوق إلى أهلها، وهو آتٍ، ستكون أيّ «مفاوضات» و«تسويات»، مباشرة أو غير مباشرة، مع العدوّ بخصوص الحدود البحريّة الجنوبيّة تحصيلاً لجزءٍ من حقٍ، الأولى أن نستفيد منه نحن لا العدو، من دون أن يشكّل هذا اعترافاً بالعدو وبحقّه المزعوم نتيجة تلك المفاوضات أو التسويات.

* باحث وأستاذ في الجامعة الأميركيّة في بيروت