في موازاة انشغال القوى السياسية، بتواطؤ جماعي، بمشروع الـ«كابيتال كونترول»، والتفتيش عن اجتهادات لمرحلة الفراغ الرئاسي وحكومة تصريف الأعمال، تتفاعل مؤشرات خطرة في المجتمعات اللبنانية المتنافرة. وهو ما تحاول القوى السياسية تجاهله عن قصد بهدف التعمية على اتجاهات ونزعات «تقسيمية» متزايدة.بعد ثلاثة أشهر من الانتخابات النيابية، برزت معالم مقلقة وخطرة في الوسط المسيحي، وفق قراءة في استطلاع للرأي أجري في مناطق ذات غالبية مسيحية وشمل فئات عمرية شابة ومتوسطة تتحضر للعودة إلى الجامعات والمدارس، عكس ارتفاع نقمة هذا الوسط و«يأسه» من مجريات الأحداث الداخلية ومستقبل علاقة المكوّنات اللبنانية مع بعضها بعضاً.
فالانتخابات النيابية في الشارع المسيحي سجّلت تحولاً في التصويت لصالح القوات اللبنانية كما للقوى التغييرية. وكان من الطبيعي أن تأخذ القوات، كصوت اعتراضي، مرتبة متقدمة لدى الشريحة التي انتخبت (وهي، للمناسبة، لا تنتمي جميعها إلى القوات)، اعتراضاً على مسار سياسي حافل بالأخطاء والارتكابات. إلا أن هذه الشريحة من المقترعين بدأت تعبر عن تململها، لأنها ترى أن كل الجهد ذهب هباء، وأن هذا الفوز انتهى مبكراً. إذ لم يؤخذ بمفاعيل الانتخابات، وكأن هناك نزاعاً بين تعذر ترجمة النتائج والقيام بخطوات متقدمة، وتصلب قوى السلطة في منع انعكاس الانتخابات وتحويل ما أفرزته أمراً واقعاً. إضافة إلى شعور بأن أخطاء ارتكبت في التصويت لصالح القوى التغييرية بعد انكشاف مستوى أداء نوابها في أكثر من محطة سياسية.
في موازاة ذلك، تعيد هذه القاعدة حساباتها في خطوة تراجعية، ليس ارتداداً على القوات التي صوّتت لها، إنما في إعادة قراءة الواقع الذي وصل إليه الوضع بعد أسابيع على النتائج. فالفوز في الانتخابات كان كبيراً، لكن من دون قدرة على استثماره نتيجة توازنات القوى ونفوذ حزب الله في إدارة اللعبة الداخلية. والسؤال المتداول: لماذا حصل الاقتراع ولأي هدف ما دام النجاح، على أهميته ودلالاته، لن يؤدي إلى أي مكان، وطالما أن الجهود التي بذلت لا يمكن صرفها في انتخابات الرئاسة وتشكيل الحكومة، وفرض إيقاع تغييري في الواقع الاقتصادي والمالي؟ ما يؤدي إلى سؤال آخر عن النظرة إلى العلاقة مع المكونات الأخرى نتيجة أدائها.
شريحة المقترعين المسيحيين بدأت تعبر عن تململ من انتهاء مفاعيل الفوز مبكراً


وإذا كان واضحاً أن هذه الشريحة تنطلق من مقاربة هذا الواقع نتيجة التدهور المتزايد الذي يترجم أعباء إضافية على أبواب الفصل الدراسي والشتاء، إلا أن ما يعكسه رد الفعل على الانتخابات الأخيرة أنها كانت آخر تجربة ومثال على «التمسك بهذا الشكل من الدولة». وفقاً لذلك، فإن الخطوة المتقدمة تختصر بالقول إن لا قابلية كبيرة للتعامل مع «هذه الدولة» كما كان يجري سابقاً، أو لإعادة اللحمة بين المكوّنات اللبنانية نتيجة أشهر من السجالات ومن أداء قوى السلطة تجاه القوى الأخرى. وهناك انطباع بأن رد فعل قوى السلطة، ولا سيما حزب الله، تجاه القوى السياسية المعارضة هو رد فعل عادي على أي خصم سياسي. لكن ما حصل في الأسابيع الأخيرة نمّ عن«عدائية» تجاه بعض القوى من قوات وشخصيات معارضة تحديداً، وهذا مؤشر على أن هناك انقساماً أفقياً ليس من السهل إعادة لملمته، ما يفتح النقاش مجدداً حول تبلور مشاريع سياسية جديدة تخفت حيناً وتعلو أحياناً أخرى. لكنها تعود حالياً بحدّة، نتيجة الشعور بأن الخلل يكبر يوماَ بعد آخر، وأن الأمور غير صالحة للاستمرار على هذا الشكل من أشكال الدولة والنظام.
واستطراداً، ثمة منحى يشكّل خطوة سياسية متقدمة، يعكس تضامناً مع القوى السنية، انطلاقاً من وضعها الحالي قبل الانتخابات وبعدها، على قاعدة أن وضعها في هذه المرحلة يشبه وضع المسيحيين في علاقتهم مع حزب الله وبعض حلفائه. وهؤلاء يعتبرون أن من الواجب التضامن سوياً في رؤية للبنان، لا تتوافق مع ما يجري حالياً من الإمساك بالقرارات وإحكام الطوق على مفاصل السلطة. خصوصاً بعد الخطوة التي قام بها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، وإعادة تواصله مع الحزب. ما يفترض، في المقابل، وضع استراتيجية موازية مع السنّة لدرس كيفية مقاربة ما يجري من خطوات تفرض إيقاعها على القوى الأخرى حتى لو كانت من الصف الأول.
هذه المؤشرات قد لا تكون جديدة في نظر بعض قوى السلطة أو خصوم القوى المعارضة على اختلافهم، وقد توضع في خانة تسييسها. وهي ليست كذلك، لأنها تتبلور أكثر عند مفاصل أساسية كما هو الواقع اليوم، وتتفاعل في أوساط جديدة وحديثة العهد، وليست نتاج تجارب وحروب سابقة. وهذا يلقي مسؤولية على القوى التي تتهم بأنها وراء تفاقم هذه النزعة، في وقت تزداد علامات التدهور الاقتصادي والاجتماعي. ما يضاعف من تبعات النظر من زاوية ارتدادية على كل ما أنتجته هذه السلطة ومكوّناتها والسؤال عن مغزى استمرار التماهي مع كل ما يمثله الشكل الحالي للدولة بكل معانيها.