يواجه العالم أزمة على صعيد «الأمن الغذائي» فرضتها الحرب على روسيا من البوابة الأوكرانية، وهي أزمة يرجّح أن تطول كما تدل على ذلك جملة تدابير اتخذتها دول عدة بغية ضمان قدرتها على تأمين الاحتياجات الغذائية لشعوبها من الأسواق العالمية.وفي الظرف الحالي، تلقى على كاهل لبنان أعباء إضافية من أجل توفير متطلبات «الأمن الغذائي»، تتمثّل خصوصاً في شح العملة الصعبة، الضرورية للتبادل التجاري ضمن علاقات الهيمنة الرأسمالية الحاكمة. وهو ما سيجعل الحصول على الغذاء أمراً تسيطر عليه الاحتكارات المحلية والخارجية المعنية بتحقيق أرباح خيالية من خلال استغلال الأزمة. وسيقود ذلك إلى تعميق الأزمة الاقتصادية والمعيشية وتوسيع قاعدة الاحتقان الاجتماعي مهدداً، بالتالي، استقرار البلاد وتماسكها المجتمعي.
إزاء هذا الوضع، وبعد تصريح وزير الزراعة حول «وعود باستيراد بذار مؤصلة للقمح الطري ذات الجودة العالية والإنتاج الوفير من فرنسا» لزراعتها في لبنان، يهمنا إعلان ما يلي:
إن «البذار المؤصلة في الخارج»، أي في فرنسا في هذه الحالة، لا تتلاءم، بالتعريف مع النظام البيئي الزراعي المحلي، والاعتماد عليها وعلى غيرها يعني جعل نظامنا الغذائي في لبنان، على المدى المنظور والبعيد، أسيراً وتابعاً لسيطرة الدول الغربية أو للشركات الاحتكارية المورّدة. إن هذا النوع من الاستجابة للأزمة، انطلاقاً من ضرورات «الأمن الغذائي»، لا ينبغي أن يكون جزءاً من استراتيجية تنتمي إلى السياسات النيوليبرالية المتوحشة نفسها التي قضت على الزراعة في بلادنا من خلال تسليع الأراضي الزراعية خصوصاً، وفتح الأسواق أمام الخارج بلا قيود. وإننا، إذ نقدر مسارعة وزير الزراعة للعمل على ما يمكن تأمينه في ظل الأزمة الحالية، ندعوه للإقلاع عن خيار جلب البذور الفرنسية المؤصلة لتجربتها وتحويل الدعم من أجل الإكثار من البذور المحلية من خلال المؤسسات القائمة ذات الصلة.
كما ندعو، في هذا السياق، إلى تحويل أزمة الغذاء العالمية فرصة لكي نعيد الاعتبار في السياسات إلى مفهوم «السيادة الغذائية»، بدل مفهوم «الأمن الغذائي»، وهو مفهوم ينطلق من «حق الدول في إنتاج غذائها الخاص والكافي لإطعام شعوبها» و«حق الشعوب بالحصول على غذاء صحي وملائم ثقافياً يُنتَج بواسطة أساليب بيئية سليمة ومستدامة». فمن شأن مثل هذه السياسات أن تؤسس لمسار جدي يقود إلى ضمان إنتاجنا لكامل حاجاتنا الغذائية المتّسقة مع بيئتنا وثقافتنا وتاريخنا، فلا نحتاج إلى خارج يطعمنا. فلا استدامة ولا حتى أمن غذائي، إذا بقي غذاؤنا تحت هيمنة القوى الاستعمارية وشركاتها الاحتكارية. وتاريخ هذه القوى وممارساتها الحديثة في دول الجوار خير دليل على ذلك. فلقد دمرت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الأوروبيون بنك البذار في العراق لمصلحة شركات احتكار البذار والتهجين الجيني. ومنع بريمر في أحد قراراته المئة المزارعين العراقيين من تبادل البذار من أجل إفساح المجال لهيمنة الشركات على إنتاج العراق الزراعي الذي كان يتمتع باكتفاء ذاتي قبل الاجتياح الأميركي. ناهيك عن حرق الطائرات الأميركية والأوروبية المحاصيل الزراعية في سوريا، وتوزيع بذار مهجّنة دارت شكوك حول تسببها بآفات للتربة. وها هو لبنان يعيش حصاراً مشدداً تفرضه هذه القوى بالذات أدى إلى إفقار شعبه وحرمانه لقمة عيشه من أجل إجباره على التنازل عن حقوقه والتخلي عن مقاومته. فهل يعقل بعد كل هذه الوقائع التعامل مع هذه الدول على أنها جهات صديقة تبغي تأمين الغذاء للشعب اللبناني؟
إن المقاربة الجدية لقضية «السيادة الغذائية»، خصوصاً في الظروف الراهنة، تتطلب رؤية تتجاوز الحدود الاستعمارية وتنطلق من التكامل الطبيعي والتاريخي في الموارد بين دول المشرق العربي. فسوريا، مثلاً، تمتلك بذاراً ملائمة للنظام البيئي الزراعي الخاص ببلاد الشام، وهي بذار عالية الجودة. وقد راكم الفلاحون خبرة كبيرة في التعامل معها، مكّنَت سوريا من التصدير بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي، قبل الحرب. وإذ تشمل إمكانيات سوريا غير القمح، فإننا ندعو إلى بلورة خطة تهدف إلى بناء نظام غذائي - زراعي، لبناني - سوري مشترك، تكون السيادة الغذائية في صلب فلسفته، يكون قائماً على مبدأ التكامل بين البلدين من أجل إنتاج حاجات شعبنا الغذائية. كما ندعو إلى تطوير هذا النظام كي يشمل العراق والأردن في أقرب الآجال. خارج هذا التصور المشترك والتكامل بين بلداننا سنبقى داخل خطوط الهيمنة، وسيبقى شعبنا يعاني الفقر والمجاعة، خصوصاً في الظروف العالمية الحالية والمقبلة التي ستزداد فيها الحاجة إلى تأمين الغذاء، وسيبقى ذلك موضوع ابتزاز لبلداننا في كافة الحقوق والأمور السياسية الأخرى.
فلتكن هذه المناسبة فرصة لنرفع معاً شعار: «زوان بلادك ولا قمح الصليبي»، ليس من باب الانغلاق، بل انطلاقاً من إدراكنا لأهمية وإمكانية إنتاج سبل عيشنا بشكل مستقل ولقناعتنا العميقة في أن السيادة الغذائية هي المدخل للسيادة الكاملة وللخروج من الهيمنة.
هذا هو الباب الكبير الذي ينبغي علينا طرقه على درب تحررنا الوطني.

#زوان_بلادك_ولا_قمح_الصليبي

* شيوعيون لبنانيون