كان يوماً مشمساً في بيروت، لكنه بارد في منطقة ضهر البيدر. هذا ما يذكره أحمد عن اليوم الذي قرّر فيه النزوح إلى سوريا خلال الحرب. لم تكن الطريق سهلة فقد «كان الطيران الإسرائيلي قد قصف كلّ الطرقات العامة، وكانت الطريق الدولية وصولاً إلى المصنع مليئة بالحفر، والآليات والشاحنات المدمّرة». بصعوبة وصل وعائلته إلى الشام، ولكن قبل أن يعبر الحدود، اتصل بأقاربه الذين سيلحقون به في اليوم التالي وأوصاهم بسلوك طريق ضهور الشوير- ترشيش وصولاً إلى زحلة «علّ طريقهم تكون أهون من طريقنا».
خطب المساجد والإعلانات
عند نقطة المصنع، اكتشف الجميع سريعاً، معنيين وغير معنيين بالمقاومة، أن المساعدات السورية لم تقتصر على المستوى العسكري وحسب، بل امتدّت إلى المستوى المدني. فتحت سوريا حدودها البرية مع لبنان، رغم التهديدات المتكرّرة بقصف نقطة المصنع، في محاولة لقطع الطريق نحوها. يؤكد أحد قياديي المقاومة، أنه وبالتنسيق مع القيادة السورية، «كانت الحكومة توعز بشكل سريع للمباشرة بفتح طريق المصنع مجدداً وردم الفجوات التي كان يسبّبها قصف الطائرات الحربية».
كان العمل يبدأ وينتهي بأقل من عدة ساعات، لتسهيل عبور النازحين إلى داخل الأراضي السورية، والذين وصل عددهم مع نهاية الحرب إلى 200 ألف شخص توزّعوا، بين دمشق وريفها، وريف حمص واللاذقية بعدما أوعزت القيادة السورية إلى قواتها العسكرية ومراكزها المدنية، والمدنيين، بحسن المعاملة وفتح المنازل والبيوت، لمن يستطيع إلى ذلك سبيلاً. تمّ الإعلان عن ذلك في خطب المساجد، وفي إعلانات الصحف والمجلات، وُضعت أرقام هواتف لتسجيل طلبات السوريين الراغبين بالمساعدة والتبرع أو استضافة عائلات لبنانية نازحة.

تساهل على الحدود
عندما بدأ اللبنانيون بالوصول إلى الحدود، كثيرون منهم لم يكونوا يحملون هوية أو «باسبور»، وجزء من السيارات كان يفتقر إلى الأوراق القانونية. ومع ذلك، أصدر عمر العيسى، أمين جمارك في النقطة الحدودية الرئيسية على معبر جديدة – يابوس في حينه، تعليماته بتسهيل مرور جميع اللبنانيين، مع أوراق ثبوتية أو من دونها. اتُّخذت إجراءات شكلية لإحصاء أرقام الواصلين، ورغم ذلك، تبيّن خلال عملية العودة إلى لبنان بعد 33 يوماً، أن هناك لبنانيين لم تُسجل أسماؤهم وتم تسهيل دخولهم إيماناً بالأخوّة والجيرة اللتين تربطان الشعبين ووفاء للدماء التي تسيل في هذه المعركة البطولية. وانتشرت على الحدود مجموعات من الهلال الأحمر واتحاد شبيبة الثورة، والاتحاد الوطني لطلبة سوريا وطلائع البعث، كما رُصدت حافلات كبيرة لنقل الجميع إلى دمشق ومدن أخرى.
يتذكّر يوسف لحظة وصوله إلى الحدود مع سوريا: «كانت العوائل السورية تقف بالصف، لاستقبالنا، وهي تحمل المياه والطعام»، كما استنفرت هذه العائلات لتأمين مساكن للذين لا معارف لهم داخل الشام، فاستضافت نحو 100 نازح لبناني، منهم من كان يملك منزلاً من غرفتين، تم التخلي عن واحدة ليعيش وزوجته في غرفة ويترك الأخرى لعائلة نازحة.
يروي يوسف أنه دخل إلى منزل جهّزته إحدى العائلات لزواج ابنها، لكنها أجّلت المشروع لضمان سكن عائلة لبنانية داخل المنزل، مؤكداً أن هذه الحادثة حصلت أكثر من مرة في ريف دمشق، المنطقة التي سكنها.

استنفار كلّ الإدارات
خلال أقلّ من 24 ساعة كانت المخيمات الكشفية قد وُضعت في الخدمة، حيث عملت «طلائع حزب البعث» و«اتحاد طلبة سوريا» و«اتحاد الفلاحين»، على إخلاء المدن ومشاريع التدريب ليوجهوا المهجّرين إليها. بالتوازي، شهدت معاهد تعليم الصمّ ومركز الأمل للمكفوفين إقبالاً واضحاً لسوريين عرضوا استضافة عائلات لبنانية.
وتواصلت هيئات الدعم على شاكلة قافلات المواد الغذائية والأدوية لإغاثة المصابين، وإطلاق حملة تبرع بالدم. كما تم فتح المستشفيات لاستقبال الجرحى والمصابين، والتركيز على أغذية الأطفال وصولاً إلى أنابيب غسل الكلى لمرضى القصور الكلوي.
الاهتمام شمل مختلف الجوانب، فاستُقدمت شاشات التلفزيون إلى غرف اللبنانيين لمتابعة آخر تطوّرات الحرب والترفيه قليلاً عن النفس، حتى إنه في المدينة الجامعية، وُضع «شيف» خصوصي لتأمين الوجبات بشكل يومي.

توزيع المساعدات
ومع إعلان هدنة «اليومين» منتصف الحرب تقريباً، قال العيسى إن الحركة «تضاعفت على معبر المصنع عشرات المرات»، خصوصاً بعد أصداء الاهتمام «المجاني» الذي لقيه اللبنانيون من قبل الدولة السورية.
أجّل سوريون زفافهم لاستقبال النازحين في منازل الزوجية


التسهيلات الموجودة عبر وزارة الشؤون الاجتماعية السورية لم تكن موجودة لدى وزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية. ويقول أحد المعنيين بملف توصيل المساعدات القادمة من الدول العربية، إن ديالا الحاج وزيرة الشؤون الاجتماعية السورية كانت تأخذ معها البريد اليومي إلى المنزل حتى في أيام العطل الأسبوعية والرسمية، للتوقيع على الأوراق القانونية وعدم تأخير دخول قوافل المساعدات إلى سوريا من الإمارات والكويت وبعض الدول الأخرى. أما نايلة معوض وزيرة الشؤون الاجتماعية اللبنانية، فكانت تؤجّل إمضاءها على دخول المساعدات يومي السبت والأحد لأنهما يوما عطلة رسمية لا دوام فيهما!

طيران الشرق الأوسط
امتدّ التعاون السوري إلى استقبال شركة طيران الشرق الأوسط، واعتبار مطارَي دمشق واللاذقية مطارين رديفيْن لمطار بيروت. ففي صباح 13 تموز بدأ العدو الإسرائيلي بقصف مطار بيروت الدولي، وتجدّد ذلك، في اليومين التاليين. سريعاً، أخذت الشركة إجراءات تقتضي بمتابعة أعمالها من لارنكا ودمشق.
وفي 14 تموز اتصل المدير العام للخطوط الجوية السورية نشأت نمير بالمدير العام لـ«MEA» محمد الحوت، وأعلمه نيابةً عن وزير النقل السوري يعرب سليمان بدر والسلطات السورية، بوضع إمكانات مطار دمشق الدولي في تصرف الشركة مع تقديم جميع التسهيلات اللازمة لذلك. وفي 17 تموز اتُّخذ قرار فوري بتسيير الرحلات من الشام. هكذا بدأت «MEA» بإقلاع رحلاتها من دمشق بكل ما يستلزمه هذا العمل من إجراءات لنقل الموظفين وغير ذلك. وفي 18 تموز أيضاً، بدأت الرحلة الأولى من مطار اللاذقية.