العودة إلى الملجأ الذي احتضننا خلال الحرب في بلدة مركبا الحدودية، تعيدني إلى تلك الطفلة التي كانت في التاسعة من عمرها تبحث لنفسها عن مكان تجلس فيه، في غرفة ضيّقة تسكنها أكثر من 15 امرأة وطفلاً، تخنقها العتمة في غياب الكهرباء والخوف من إشعال أي ضوء قد يثير شبهة العدو. طفلة يزعجها الاستحمام بركوة ماء من دون صابون، تتسلّل إلى باحة الملجأ خلسة من والدتها كسجين يتوق إلى الحرية.أتسلل إلى دهاليز ذاكرتي. أرى في إحدى الزوايا فتيات ذوات وجوه شاحبة، يسكنهن الخوف من صوت القذائف، يستنجدن بالدعاء وقراءة القرآن. وعند هذه الزاوية رقدت عمتي الحامل في شهرها الثامن تتوسّل ربّها ألا تلد هنا. لقد كان الخوف كالعدوى ينتقّل من الكبار إلى الصغار. وحدها جدتي (رحمها الله، توفيت بعد 11 عاماً من الحرب، مضت كالعلقم حسرة على فقدناها لابنها شهيد حرب تموز حسن حمود) طمأنتنا كلما اجتازت الأضواء الشبابيك ليلاً: "إنها هرّة، عيناها تضيئان في الليل، لا تخافوا"، وكنا نصدّقها فعلاً وننام. أما الكبار فيخشون أن يباغتهم النعاس ويستسلموا النوم، ظلوا على أهبة الاستعداد للساعة التي يضطرون فيها للهروب.
أحاول أن أستعيد الذاكرة أكثر، فأقترب من شجرة التوت المجاورة حيث كانت تفوح رائحة الخبز الزكيّة. على يمين جدتي نساء يساعدنها، وعلى يسارها أطفال يسرقون الخبز الساخن من يديها. وعلى وجهها قسمات الخوف من نفاد الطحين المخزّن ومصارحة أولادها وأحفادها بالجوع المحدق. عند الباب الحديدي للملجأ، عادت والدتي يوماً خالية الوفاض تشكو استسلام بعض الدكاكين ويُتم الرفوف في الدكاكين الأخرى. وهكذا، صارت الكوسى التي زرعناها في أرضنا قوتنا الوحيد إلى جانب البطاطا المقلية، يراها الكبار نعمة تسندنا للصمود، ونراها نحن الأطفال نقمة، نملّ من تناولها يومياً محشوّة بالأرز بلا لحمة ولا صلصة ولا حتى خبز.
مشيت على خوفنا وذعرنا وقلقنا من أن تطول الحرب ونفقد القدرة على الصمود أو أن يضرب صاروخ منزلنا ويبيد عائلة برمّتها. وصلت إلى بيت عمي الذي يبعد عن بيتنا بضعة أمتار والذي تعرّض للقصف من دون أن يتأذّى أحد فيه. من كانوا في المنزل يومها وصلوا إلينا في حالة يرثى لها، لاهثين، ينظرون إلى الخلف حيث تأكل النيران منزلهم، غير مصدّقين كيف نجوا منها بأعجوبة. في الوقت ذاته، اشتعلت ألسنة اللهب في ساحة البلدة، فعمّ الرعب في غرفة الملجأ وشعر الجميع صغاراً وكباراً بأن الموت صار أقرب من أيّ وقت مضى. أخبرنا والدي، الذي بقي في بيروت، عبر هاتف أحد أبناء البلدة أن قوانا قد نفدت، فقرّر أن يأتي إلينا ليرجعنا إلى بيروت غير آبه بخطورة هذه الخطوة. وكان يوم مغادرة القرية، الثاني عشر من الحرب، تاريخاً لا يُنسى.
تأخّر والدي عن موعده كثيراً، ولم يكن يجيب على اتصالاتنا المتكررة. سمعت من أمي أن الطريق من بيروت إلى الجنوب معبّدة بالخطر، فجلست على حافة الطريق وعيناي على آخر الشارع أنتظره بأسى مبعثرة بين ارتياب الاحتمالات. هناك من يؤمن بلحظات انفصال عن الواقع، أخالني عشتها في ذلك الوقت، كنت أرى ما حولي وهمياً حتى أطلّت سيارته فركضت وأختي إلى "بطلي" وغمرناه بقوة، وكان ذاك المشهد مؤثراً بشكل لا يوصف أدمع عيون كلّ الواقفين.
استغرقت الطريق إلى بيروت 12 ساعة، قضيتها تحت أحد الرفوف في "فان" سكاكر، لأن أهالي البلدة تعلّقوا بوالدي، "فرصة النجاة الوحيدة" فاضطر أن يقلّهم بسيارته وسلّم مهمة نقل الصغار "بفان" إلى أحدهم. كان ذلك "الفان" مقفلاً من جميع الاتجاهات، لذا لم أرَ شيئاً طوال الطريق، ولم أسمع غير البكاء وشهادات الموت المتكررة. أما من ركب السيارة فشاهد الموت بأمّ العين أكثر من مرة. لقد كان فعلاً سباقاً مع الموت الذي يلاحقهم بقذائف صاروخية، يقطع عليهم الطريق تارة، ويوقف سيارتهم تارة أخرى... لكننا ربحنا الجولة، ووصلنا بأمان إلى بيروت.
ظننت ببراءة أن الحرب ستنتهي لحظة خروجنا من مركبا، فأخطأت، لأن العدو استقبلنا بضربة كبيرة هزّت البناء في برج البراجنة، حيث نزلنا في بيت جدي. لكنني لم أخطئ عندما راهنت أن الحرب لن تخيفني بعد، لقد استمرّت لأيام لكنها كانت حرباً آمنة بوجود والدي.
صمودنا 12 يوماً كان إنجازاً، لكنّ صمود أهالي الجنوب طيلة الـ33 يوماً في قرى أُمطرت عليها القذائف ودارت فيها اشتباكات طاحنة بعد دخول الإسرائيلي إليها كان هو الآخر معجزة. فبعد اليوم 13 من الحرب نفدت المؤن في البيوت ولم يبقَّ في القرى غير من لا يملك سيارة أو مأوى في بيروت أو من أبى مغادرة الجنوب. وصار الخروج من المنزل حصراً في أولى ساعات الصباح وقبل المغيب عندما يخفّ القصف. في هذه الأثناء كان أهالي القرى يدخلون البيوت والمحالّ ويأخذون أي شيء قابل للأكل، ويسجّلون ذلك ليعيدوا الأمانة إلى أصحابها إذا بقوا أحياء.
مع دخول الإسرائيلي الجنوب في اليوم 17 من الحرب، صار الخروج من المنزل في أي وقت انتحاراً. مرّت أيام على أهالي الجنوب لم تدخل إلى بطونهم الخاوية أيّ لقمة، وأيام يأتيهم طعام شحيح فيمارسون التقنين عليه ليضمنوا صموداً أطول.
يروي أبو أحمد قطيش (44 عاماً) الذي بقي في حولا طيلة الحرب كيف "سلقت القمح في اليوم 18 في إبريق الشاي، لـ250 فرداً مجموع من بقي في حولا، فحصل كل فرد منهم على 14 حبة قمح"، ويضيف: "مرّت علينا أيام نعطي الأطفال ماء وملحاً حتى نحافظ على صحة معدتهم، ونعطي كبار السن حبة أرز مسلوق قبل تناول الدواء". في اليوم 23 من الحرب اشتدّ القصف على حولا، أحد خطوط التماس، فجرى التنسيق بين الجيش اللبناني وقوات اليونيفل والصليب الأحمر لنقل أهالي البلدة بالدبابات إلى المركز الثقافي في البلدة. ويرى أبو أحمد أنها كانت "خطوة انتحارية لأن الحصار في المركز يعني أنك لن تجد غير الأوراق لتأكلها". ويشرح: "يفتقد المركز لأدنى مقوّمات العيش، ويقع على تلة مشرفة على وادي السلوقي الذي تلقّى ضربات صاروخية بغزارة، ما يهدد بقصف المركز وتكرار مجزرة قانا من جهة ويصعّب الخروج منه أو حتى الوصول إليه بغية المساعدة". يختصر أبو أحمد معاناتهم من اليوم 23 إلى اليوم 32 بالقول: "رأينا أشكالاً كالمومياء صمدت بأعجوبة".
رغم قساوة الحياة في الجنوب آنذاك، لم يبخل الأهالي الصامدون على المجاهدين بما يملكونه من طعام شحيح. تقاسموا رغيف الخبز بينهم، مثل زينب نصرالله (50 عاماً) المعروفة "بالبطلة" في بلدتها حولا لأنها بقيت مع المجاهدين "لأساعدهم قدر المستطاع، كنت كأختهم الكبيرة أحضّر لهم ما تيسّر من طعام وأشعر بطيف الأخ الحنون يؤمّن لي الأمان".
تشعر بالأسى عندما تسمع عمّا عاشه أهالي القرى الجنوبية الحدودية في مركبا وحولا وعديسة وكفركلا والخيام ومارون الرأس وعيتا الشعب وعيناثا وصدّيقين... ثم تبتسم لأن الحرب انتهت، وخرجنا منها منتصرين، نسترجع الذكريات الموجعة ونحن على أرض الجنوب الصامدة كصمود أهاليها المعجزة.