العديد من النساء كسرّن حاجز الصمت، خصوصاً بعد إقرار قانون "حماية النساء وباقي أفراد الأسرة" رقم 293 الذي أقر في 2014، وبعد حملات التوعية التي تقوم بها منظمات تعنى بشؤون المرأة. لكن، في المقابل، لا تزال هناك قصص كثيرة خلف الأبواب لم تروَ. وقد كشفت الحوادث الأخيرة التي قُتل فيها عدد من النساء على أيدي أزواجهن بطريقة وحشية، أن العوائق أمام حماية المرأة لا تزال كبيرة أمامهن. فما هي هذه العوائق؟ وكيف يمكن تشجيع النساء أكثر على تحدي خوفهن وطلب الحماية؟
لا حل إلا بقانون موحّد للأحوال الشخصية
الحديث عن العنف يوجب البحث عن أسبابه، والمعالجة الحقيقية، بحسب المحامية ليلى عواضة، العضو المؤسس لمنظمة كفى غير الحكومية، تبدأ بإقرار قانون موحّد للأحوال الشخصيّة، إذ أن الواقع الحالي "يكرّس التمييز بين المرأة والرجل، ولا ينظر للمرأة على أنها فرد مستقل بل فرد تابع. فالمرأة منذ ولادتها تسجل على خانة والدها في سجلات النفوس، ثم تنتقل إلى خانة زوجها، فلماذا لا تكون لها خانة مستقلة تستطيع لاحقاً أن تسجل أولادها فيها؟". وتضيف: "النظام العشائري الذي كان قائماً تم إستبداله بالنظام العائلي المرتكز إلى فكرة أبوية. أصبح الرجل هو صاحب السلطة والمسؤول الوحيد عن الأسرة، وأعطى لنفسه الحق بمعاقبة المرأة وحتى تأديبها. لذا يجب تحويل هذا النظام الأبوي إلى نظام والدي تكون المرأة فيه شريكة في العلاقة الوالدية".
وتعزو عواضة سبب العنف الأساسي إلى التفاوت في علاقات السلطة. فالزوج يملك قرار الطلاق عند بعض الطوائف، ويقوم بإبتزاز الأم لرؤية أولادها في حال طلبت الطلاق، أو يطلبها لبيت الطاعة. لذا فإن القانون الموحّد يساوي بين الرجل والمرأة ويحفظ حقوقها، وهو لا يهدّد معتقدات الأفراد كما يروّج رجال الدين، بل تصبح الدولة هي المسؤولة عن تنظيم شؤون الأسرة عوضاً عن المحاكم الشرعية.
وعن دور المنظمة في مساعدة النساء وحمايتهن، تقول عواضة إن نشر الوعي هو الهدف الأول للمنظمة من خلال فيديوهات التوعية، وتوضيح كل ما يتعلق بقوانين حماية المرأة وأطفالها من العنف.
أما في ما يتعلق بالحماية المباشرة، فلدى المنظمة "نوعان من التدخل؛ تدخل طارئ في حال كانت السيدة بحاجة إلى حماية فورية، فنقوم بإستقبالها وتأمين ملجأ لها. وتدخل غير طارئ؛ يشمل مساعدة السيدة من خلال أخصائية إجتماعية، وتقديم إستشارة قانونية ودعم نفسي. وبناءً على خطة تضعها السيدة تقوم المنظمة بمتابعتها ومواكبتها".
وتخلص عواضة إلى أن "الدولة ما زالت بعيدة عن مكافحة العنف ضد النساء، لأنها لا تعترف بوجود هذا العنف، وهذا ما تبين أثناء إقرار قانون 293/2014 الذي قُدم على أساس حماية النساء، فتم تعديله وتسميته بقانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري، لأن العقلية الذكورية هي الأساس وهي الحاضرة على طاولة مجلس النواب".
العوائق القضائية
في إطار مواكبة منظمة كفى لتطبيق قانون 293/2014 وتحليل قرارات الحماية الصادرة في العامين 2018 و2019، أشارت المنظمة إلى بعض الثغرات القضائية التي تضمّنها القانون، واعتبرت أن عدم توحيد النهج القضائي في تطبيقه من شأنه أن يؤثر على ثقة الضحية بالقضاء والقانون، وتتحول هذه الثقة الى شخص القاضي. ولفتت الى أن بعض القضاة المدنيين أظهروا حرصاً على المحاكم الطائفية وعلى صلاحياتها وكأنهم حرّاس هذه المحاكم. لذا كان من بين التوصيات التي رفعتها المنظمة:
- إقرار التعديلات على القانون 293 في مجلس النواب كي لا يبقى تطبيقه مرتبطاً بشخصية القاضي.
- عقد دورات للقضاة على مفاهيم العنف المبني على العنف الإجتماعي وعلى خلفية القانون 293.
- إنشاء محكمة أسرية متخصّصة في القضاء المدني، تنظر فقط في جرائم العنف الأسري وفي جرائم قتل النساء وتُصدر قرارات الحماية.
العوائق المجتمعية
تُمثل القوانين عنصراً رادعاً في مكافحة العنف ضد المرأة، إلا أن الزيادة الصادمة في العنف ضد المرأة إبان جائحة كورونا، والتي تعدّت في بعض الدول المتقدمة مثل فرنسا الـ 30%، أظهرت أن بعض المجتمعات لا تزال تعاني من غياب الثقافة المجتمعية، وأن النظرة الى المرأة لا تزال تخضع لمنظمومة من التقاليد والأعراف تحكمها العقلية الذكورية.
فالتنشئة الأسرية لها دور كبير في تكريس المساواة بين الرجل والمرأة، أو تكريس النظرة الدونية إلى المرأة كجزء من الفئات المهمشة التي من المقبول إجتماعياً تعنيفها أو مصادرة رأيها. وليس تزويج القاصرات إلا دليلاً على هذه التجاوزات التي تحصل بحق بعض النساء. كما أن البعض يتخذ من الدين حجة لضرب المرأة، وهذا ما تنفيه كل الروايات والأحاديث التي تشددّ على إحترام المرأة ومكانتها في الأسرة والمجتمع.
المشكلة إذن ليست في وجود قوانين، بل في تطبيقها والتساهل مع مرتكبي العنف، وفي اعتراف المجتمع بأن الخلافات الأسرية قابلة للحل عن طريق المحاكم، وليست حالات خاصة يحكمها مبدأ "العيب" و"التستر".
أما العنصر الآخر، الذي لا يقل أهمية عن القانون، فهو الاستقلالية المادية للمرأة. إذ أن تمكين المرأة إقتصادياً يساعدها على التحررّ من الواقع الذي تعيشه، ويؤهلها لحضانة أطفالها في حال حدوث الطلاق.
لأني إمرأة!
في القرن الواحد والعشرين، لا تزال أسماء النساء تتصدر قائمة ضحايا العنف الجسدي. العنف الذي يلاحق المرأة ويقتلها في ما يُفترض أنه أكثر الأماكن أمناً لها، وهو منزلها.
من لطيفة قصير، إلى رولا يعقوب، زينة كنجو، ليليان علّوه، رقية منذر، زهراء القبوط، رنا بعينو، سارة الأمين، وغيرهن. أسماء لنساء قُتلن بأبشع الطرق.
وكان عام 2020 قد سجل العدد الأكبر من حالات قتل النساء. وأفاد المرصد الإعلامي في منظمة "أبعاد" بأنه تأكد عبر رصده لجرائم العنف والقتل الموجّهة ضد نساء وفتيات، أن 11 ضحية قُتلن نتيجة عنف أسري عام 2019، و12 عام 2020، و5 عام 2021.
واليوم، قصص كثيرة تنتظر من يرويها، لنساء يراودهن الخوف في كل لحظة بأن يلقين المصير نفسه. وعندما نسأل عن السبب الذي يمنع المرأة من التبليغ عن العنف الموجه ضدها، يكون الجواب: "عندي ولاد وبدي عيش معن".
المطلوب إقرار تعديلات على القانون 293 في مجلس النواب كي لا يبقى تطبيقه مرتبطاً بشخصية القاضي
سلمى، سيدة في العقد الثالث من عمرها، وأم لولدان. تقول إن زوجها عصبي بطبعه لكن الأزمة الإقتصادية زادت من عصبيته، ولم يتحكم بنفسه في مرات عدة، فقام بضربها لأتفه الأسباب، لكن خوفها من خسارة حضانة أولادها أجبرها على تحمل هذا الوضع.
أما ليلى، وهي أم لثلاثة أولاد، فقد حصلت على طلب حماية بعد تبليغها عن تعرضها لعنف جسدي من زوجها، إلا أنها عادت وتراجعت عن قرارها بعدما واجهت إنتقادات من عائلتها ومجتمعها. تقول: "إذا ما في حدا يدعمني ما فيني آخد هيك قرار لحالي".
وتقول رنا، وهي أم لطفل وحيد، وتتعرض منذ زواجها لأشكال عدة من العنف اللفظي والمعنوي وحتى الجسدي، بأن وضعها المادي لا يسمح لها الآن برفع دعوى طلاق لأنها من عائلة فقيرة ولا تملك عملاً. وتضيف "بس لاقي شغل ما رح إبقى يوم واحد".
الحماية... «دايماً وقتها»
رغم الوضع الاقتصادي الحالي والظروف الصعبة التي يشهدها لبنان، تبين أن إمرأة من كل 5 نساء ترى أن أولويتها في الوقت الحالي هي "الحماية"، وذلك في دراسة إحصائية أجرتها منظمة أبعاد حول "أولويات الفتيات والنساء في لبنان اليوم ومدى شعورهنّ بالحاجة الى الحماية".
وأشارت الدراسة أيضاً إلى أن 96 في المئة من الفتيات والنساء اللواتي تعرضن للعنف المنزلي في لبنان لم يبلّغن عن هذا العنف خلال 2021. وأن 2 من كل 5 نساء تمتنعان عن التبليغ بسبب الخوف من ردة فعل الجاني.
واعتبر 62.4 في المئة من العينة التي شملتها الدراسة أن التحديات الإقتصادية هي في رأس قائمة التحديات التي يواجهنها، تليها التحديات الاجتماعية بنسبة 22.6 في المئة ثم التحديات النفسية 11.6 بالمئة.
الدراسة جاءت ضمن حملة قامت بها منظمة أبعاد بعنوان #دايماً_وقتها للتأكيد على أن حماية النساء هي أولوية في كل الأزمات، ولتعريف النساء على حقوقهن في التبليغ عن أي عنف قد تتعرضن له.
أمهات مُعنّفات... ماذا عن الأطفال؟
يُشار إلى الأطفال الذين يعيشون في أسرة معنفة على أنهم "ضحايا الظل" لما للعنف الذي تتعرض له الأم من انعكاسات خطرة على نفسية الطفل، تبدأ من مرحلة الطفل الرضيع حتى مرحلة ما بعد البلوغ. ومن أخطر هذه الأثار:
عندما يقوم الطفل بتبرير العنف ويطمح لتبني أفكار والده.
أما الفتاة فقد تتكون لديها قناعة بكونها "ضحية"، وأن العنف هو ظاهرة معتادة ومقبولة.
كما أن الاطفال الذين ينشأون في أسرة معنفة يصبح لديهم ميل أكبر لإستخدام العنف، إن كان في المدرسة أو في الشارع، ويتعرضون أكثر من غيرهم لحالات الإكتئاب والتأخر المدرسي والإنطواء.