تلتزم إسرائيل الرسمية بصمت لافت إزاء وصول حفّارة التنقيب عن النفط والغاز إلى حقل «كاريش»، فيما تترك لإعلامها ومراسليه إدارة معركة التصريحات والمواقف و«اختبار الإرادات والنيات»، عبر تقارير محدودة وموجّهة.لم ترد من تل أبيب، حتى الآن، مواقف وتعليقات رسمية ذات شأن، فيما تترك إدارة المسألة البحرية مع لبنان، بما يشمل نية الحفر في «كاريش»، لتقارير مراسلي الشؤون العسكرية والأمنية والاقتصادية، ولكن تحت إدارة وإشراف واضحين من الرقابة العسكرية وبتوجيه من المؤسسة العسكرية. ووفقاً لما صدر في اليومين الأخيرين، يمكن ملاحظة الآتي:
أولاً، تُدار خطة الحفر في كاريش بتأنٍّ وحذر وعدم الانجرار إلى التعليق الرسمي، عسكرياً وسياسياً، بما يحقّق الأهداف، ويحول دون استفزاز الطرف الآخر أو كشف النيات الحقيقية له. وهذا يستدعي، في المقابل، تأنّياً وحذراً في إطلاق المواقف وتقدير أفعال العدو. فالمواقف والتعليقات الواردة من لبنان، بما فيها إشارات الفعل واللافعل والتأييد واللاتأييد للمقاومة والتشبّث بالحق الغازي والنفطي، كلها ستكون جزءاً لا يتجزّأ من أي قرار تتخذه إسرائيل إزاء الاعتداء على الحق اللبناني.
ثانياً، من الواضح تماماً قرار المستويين السياسي والعسكري بترك الأضواء للإعلام العبري هذه الفترة لينشر ويعلق ويقدّر المواقف والمآلات. وهذه سياسة مدروسة جداً ويرجح بقوة أنها مقرّرة بما يلزم كل المستويات الإسرائيلية. فأي موقف رسمي، سياسي أو عسكري، يصدر مباشرة عن أي مسؤول في تل أبيب، وتحديداً من الصف الأول، سيكون مُحرِجاً جداً للكيان العبري. كما تفتح هذه السياسة نافذة التراجع في حال قدّرت القيادات المعنية وجود أضرار يحاول العدو تجنّبها.
ثالثاً، تتحدث التقارير الإسرائيلية، على قلّتها حتى الآن، عن أن عمليات الحفر ومن ثم استخراج الغاز من «كاريش»، هي عمل طبيعي ولا يرتبط بأي نزاع قانوني أو غير قانوني مع لبنان. بل تشير التقارير العبرية، بنوع من الاستغراب، إلى أن «هناك في لبنان» من يتحدث عن مكان متنازع عليه رغم أن «هذا المقطع الشمالي خارج أي تنازع». وكان لافتاً ما ورد في تقرير مراسل الشؤون العسكرية في القناة 12 بأن «الجزء الشمالي لحقل كاريش يلامس الحدود البحرية للبنان»، وهي ملامسة وليست خرقاً. والأهم في التقرير هو التأكيد على وجود اتفاق مسبق مع لبنان يخرج «كاريش» من دائرة التنازع، إذ جاء في التقرير أن «هناك توافقاً حول الموضوع جرى التوصل إليه عبر اللجنة المشتركة التي يرأسها المبعوث (الأميركي) الخاص للطاقة في الشرق الأوسط عاموس هوكشتين».
في موازاة ذلك، تحرص التقارير العبرية على إظهار «اضطرار» إسرائيل لاستخراج الغاز من حقل «كاريش» تحديداً، بوصفه حاجة استراتيجية لا يمكن لتل أبيب أن تتجاوزها. وفق التعبير العبري فإن «منصة كاريش تشكل مرفقاً اقتصادياً أساسياً ومن المتوقع أن يزود الاقتصاد الإسرائيلي بالغاز الطبيعي الذي يُستهلك في إسرائيل نفسها لسد حاجاتها الخاصة» وليس مخصصاً للتجارة، وصولاً إلى الإشارة إلى ضرر قد يصيب قطاعات استراتيجية أخرى، «وقد يؤدي الضرر الذي يلحق بالمنصة إلى صعوبات حقيقية في أداء الاقتصاد الإسرائيلي، إلى حد الإضرار بإمدادات الكهرباء المنتظمة للإسرائيليين».
رابعاً، إلى جانب «البراءة والوداعة والحاجة الاقتصادية والحرص على التفاهم المسبق»، تلمح التقارير الإسرائيلية إلى وجود إجراءات وتدابير عسكرية تخدم أمن حقل «كاريش» وما فيه من معدات ومنشآت، يتولاها سلاح البحر في جيش العدو. ووفقاً للتقارير العبرية، «بدأ سلاح البحرية عملية أمنية واسعة حول منصة الحفر والإنتاج التي وصلت صباح اليوم (أمس) إلى وجهتها على بعد تسعين كيلومتراً قبالة الساحل الإسرائيلي، عند النقطة الأقرب إلى شواطئ لبنان»، مشيرة إلى أن البحرية الإسرائيلية ستنهي في الأسابيع المقبلة ترتيباتها وإجراءاتها، لتبدأ عمليات الحفر، ومن ثم استخراج الغاز». مع الإشارة إلى أن «لغة تهديد» تضمّنها الحديث عن نشاط البحرية الإسرائيلية مثل التذكير، بعد أكثر من عام على اعتدائها الأخير على قطاع غزة (معركة سيف القدس)، بأن الدفاعات الجوية أسقطت طائرة مسيّرة لحركة حماس أُطلقت من غزة كانت موجّهة لاستهداف حقول غاز في المتوسط».
تعمل إسرائيل وفق استراتيجية مدروسة لتكون قادرة على فرملة نفسها وفقاً لردّ الفعل المقابل


لذلك، يمكن القول إن ما نشهده من تعبيرات إسرائيلية يمثل مقدمات ضرورية تمهيداً لما يمكن لها أن تقوم به، لكن يبدو أن الأمر مرتبط بردة الفعل من جانب لبنان. وهنا تلقي تل أبيب الكرة في الملعب اللبناني، ضمن مقاربة ظاهرية غير رسمية يمكن التراجع عنها وفقاً للفعل المقابل. لكن مع حرص تل أبيب على تظهير «حقها»، وأنها في وارد استغلال حق «غير متنازع» عليه، وأنها حرصت مسبقاً على التفاهم عبر الوسيط الأميركي، مع التلويح وإن بإشارات غير مباشرة إلى أنها على استعداد أمني وعسكري للمواجهة العسكرية.
مقاربة مدروسة جيداً ومُعَدّ لها مسبقاً ويجري تنفيذها بدقة وعناية لافتتين. طبعاً التهديد المقابل، من حزب الله أولاً باستخدام القوة لحفظ الحق اللبناني، وثانياً الالتفاف الطوعي والقسري للقوس السياسي على اختلافه، عامل مؤثر في هذه المقاربة، وإلا ما كانت إسرائيل لتلجأ إلى الحذر وطرح خططها بالتدريج لتكون قادرة على فرملة نفسها وفقاً لرد الفعل المقابل.
تقرير القناة 12 العبرية كان عنوانه سؤال: «منصة الغاز التي قد تشعل مواجهة مع حزب الله؟». هنا يجب إعادة صياغة السؤال حول مآل «المواجهة التي تسبّبت بها إسرائيل، انطلاقاً من حقل كاريش؟» وقد يكون السؤال الثاني، أكثر دقّة وموضوعية.