في العادة، لا يتم التعامل مع الناخبين في لبنان إلا بكونهم أرقاماً، أي في قراءة أعداد الناخبين ثم المقترعين، واتجاهات الاقتراع سياسياً وطائفياً ومذهبياً. وفي العادة أيضاً، يتعاطى المرشحون والقيادات السياسية مع الناخبين على أنهم لزوم ما لا يلزم، وأنهم للصور فقط ولتجميل العملية الديموقراطية بوضع ورقة الانتخاب في صندوق الاقتراع.كان يفترض بحدث 17 تشرين أن يقلب مقاييس الانتخابات هذه السنة، ويجعل الناخبين ضرورة حيوية للمرشحين والأحزاب. وجاء انفجار المرفأ ليضع الناخبين وجهاً لوجه مع القوى السياسية، في ضوء التحقيقات التي أجريت. لكن، مع بدء التحضير للانتخابات، بدت أولى المفارقات أن الناخبين عادوا ليكونوا أرقاماً، بدل أن يتحوّلوا رقماً صعباً في معادلة إعادة إنتاج الطبقة السياسية نفسها. فما يظهر من أداء الناخبين والمرشحين والقراءات الاستباقية للانتخابات يتحدث عن تغيير طفيف في بعض الدوائر، وعن إعادة إنتاج مجلس نيابي شبيه في تركيبته بتوزع القوى الحالية، كاتجاهات سياسية وليس كعدد مقاعد لن يكون المتغير فيه كبيراً في شكل دراماتيكي. إذ بعد انحسار تظاهرات 17 تشرين، وإفشال التحقيقات في انفجار المرفأ، جاء أداء المجتمع المدني وبعض القوى التي أطلقت على نفسها اسم قوى تغييرية، ليزيد من حظوظ المجموعات الحزبية المعارضة والموالية في الوصول إلى المجلس، ويساهم أكثر في طمأنتها إلى واقعها الانتخابي، إلا إذا تمكنت هذه القوى رغم تشكيل اللوائح وتشرذمها من خلق نواة معارضة حقيقية عشية الانتخابات.
لذا يمكن السؤال فعلياً ما هو دور الناخب اللبناني في الأزمات المتتالية التي تلاحقه يومياً قبل شهر من 15 أيار. وهل يمكن للناخب أن يكون على بينة مما يريده المرشحون، بغض النظر عن المناظرات الحزبية التي تقيمها الأحزاب لمحازبيها؟
تمهيداً للانتخابات الفرنسية الرئاسية، كتب الكثير عن كيفية التحضير للقاءات عامة ومصغرة متخصصة لتحضير الناخبين لاختيار أفضل البرامج والمعايير الأخلاقية والسياسية والبيئية والاقتصادية. فأهمية الناخب أنه، ببساطة، ناخب يضطر زعماء الأحزاب إلى استرضائه في أدق التفاصيل، وليس بعناوين عامة وشعبوية. في لبنان، ورغم أن المرشحين يقومون بجولات وحفلات انتخابية، إلا أنهم - باستثناء قلة محدودة - يكادون لا يأتون على ذكر برنامج انتخابي واضح. فالمهرجانات الخطابية بنت في الأيام الأخيرة نفسها على حفلات هجاء متبادلة وإطلاق توصيفات ومعايير ينحدر فيها المستوى الأخلاقي والثقافي والسياسي. وعدا عن عنوان الصراع السياسي المتجدد بين قوى 8 آذار ومحاولات جمع أضدادها، وبين ما بقي من قوى 14 آذار، فإن ما يشهده لبنان اليوم ليس سوى واجهة مزيفة للانتخابات، يتحمل مسؤوليتها الناخبون الغائبون فيما يفترض أن يكونوا نجم انتخابات 2022.
ما حصل في قرار مجلس الوزراء بهدم أهراءات المرفأ يشبه القطيعة التامة بين طبقة سياسية وحكومة وعهد وبين الناس الذين هم ناخبون اليوم. وهذا يعكس، في واقعه الحقيقي، أن ثمة من يدرك أن هذا القرار لن يتحول كرة نار تنفجر في الشارع وفي وجه القوى السياسية في صندوق الاقتراع. لأن أي تبريرات علمية لا يمكن فهمها في لحظة تتعلق بحق شهداء المرفأ وأهاليهم، بل تعطي تأكيداً بأن القوى السياسية عادت لتتصرف وكأنها في مرحلة ما قبل 17 تشرين، في أداء يشبه تصرف بعض قوى المجتمع المدني والشخصيات التي ركبت موجة الشارع، لتصل إلى لقب مرشح للانتخابات ولو لم تصل إلى المجلس النيابي.
الكهرباء والخبز وتحقيق المرفأ وأموال المصارف كلها عناوين تبقى صالحة لانتخابات 2026


خطورة قرار هدم أهراءات القمح أنه متعدد الاتجاهات. لكن بوصلته أن الناخبين الذين لا يجدون ربطة خبز في الأفران، ويعرفون أن القمح إما مغشوش أو مفقود، يطلقون النكات حول طوابير الذل أمام الأفران كما فعلوا عندما وقفوا أمام محطات المحروقات. وهم أنفسهم الذين يدفعون ثمن صفيحة البنزين 450 ألف ليرة، بعدما كانوا يدفعون ثمنها 30 ألفاً قبل أشهر، وهم الذين لم يتمكنوا من تحصيل أموالهم في المصارف، ولا ينعمون بكهرباء مؤسسة الكهرباء ولا كهرباء المولدات إلا بعد الدفع بالدولار، فيما يرفعون أعلام أحزابهم على شرفات منازلهم. وهم أنفسهم موظفو القطاع العام الذين لا تدفع لهم المصارف الإضافة على رواتبهم رغم تعميم مصرف لبنان. وهم الذين ظن مخطئاً وزير الاتصالات بأنهم قد يؤثرون سلباً في الانتخابات، فتقرر إرجاء رفع تسعيرة الإنترنت من أول أيار إلى أول حزيران أي بعد انتهاء الانتخابات.
هؤلاء الناخبون، ومرشحو المجتمع المدني في مقدمهم، غضوا النظر عن قرار خطير بالمعنى الجوهري بحجم تأجيل الانتخابات البلدية إلى العام المقبل كي يتسنى للنواب المنتخبين وضع البلديات تحت وصايتهم. هؤلاء الناخبون سيكونون على الموعد في 15 أيار، لأن المرشحين يحتاجون إليهم أمام عيون المجتمع الدولي، للقول إنهم أتموا واجباتهم الديموقراطية في إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، وإنتاج مجلس شبيه بالحالي. أما الكهرباء والخبز وتحقيق المرفأ وأموال المصارف فكلها عناوين تبقى صالحة لانتخابات 2026.