لا يملّ العدو الإسرائيلي، منذ تأسيس كيانه، من محاولات اختراق صفوف المجتمع اللبناني عبر محاولات زرع عملاء وتجنيد جواسيس في إطار مشروعه الإستعماري والإحتلالي. وبعيداً عن الأساليب التقليدية في تجنيد العملاء عبر التواصل المباشر مع من يشغلّهم أو من خلال شبكات الاتصال التقليدية لا سيما الهاتفية، أُتيحت للعدو، في زمن العولمة وحروب المعلوماتية وانتشار شبكات الإنترنت، سبل جديدة لتصيّد واستهداف الأفراد والجماعات في مجال سعيه الحثيث لتجنيد عملاء وجواسيس. عملية التجنيد تبدأ عادة بتطبيع العلاقة مع العدو. والتواصل الالكتروني مع أي شخص او جهة إسرائيلية يندرج في خانة التطبيع، أي جعل العلاقات عادية وطبيعية مع العدو، وبالتًالي الرضا والاستسلام والتّسليم بحقّه في احتلال فلسطين. مع انتشار الـ«فيديوغايمز» بين الأطفال والمراهقين بشكل خاص، باتت هناك مساحة الكترونية واسعة للقاء لاعبين لبنانيين بلاعبين إسرائيليين. ماذا يعني ذلك وكيف يفترض التعامل مع هذه الظاهرة الواسعة الانتشار؟

بعد يوم دراسي طويل، يهرع فؤاد وأصدقاؤه إلى مقهى الإنترنت في حيّهم السكني في ما يشبه طقساً يوميّاً يمتدّ حتّى ساعات متأخّرة من الليل، منغمسين في الـ PUBG، لعبة الحرب والقتال التي يصل عدد اللاعبين فيها إلى نحو 100 من كل أنحاء العالم، يهدف كل منهم إلى أن يكون الناجي الأخير. ويمكن للاعبين الاختيار بين الخوادم (Servers) التي يكون فيها اللاعب وحده وليس ضمن فريق معين، أو تلك التي تسمح بمشاركة شخصين أو أكثر في الفريق. وفي كل الحالات، فإن آخر شخص أو فريق يبقى على قيد الحياة يفوز بالمباراة.
تتخلّل اللعبة أحاديث ودردشات بين اللاعبين في إطار حماسيّ وتنافسيّ. في إحدى المرات تدخّل أحد اللاعبين متحدثاً بالعربية وبدأ بالحديث عن مجريات اللعبة قبل أن ينتهي إلى أسئلة عن مكان الإقامة وعن أمور شخصية. تفاعل الرفاق المنشغلون بمجريات اللعبة معه ظنًا منهم بأنّه فلسطيني نظرًا إلى «لكنته»، قبل أن يكتشفوا هويته الحقيقية، «طلع إسرائيلي إبن الـ...». ولكن بدل التوقف مباشرةً عن اللّعب استمرّوا بكيل الشتائم له!
كريم، لاعب متمرّس منذ سنوات، لا يمانع من اللعب مع إسرائيليين «طالما عم نتسلّى فيهم ونقتّلهم». ما يهمّه هو الحفاظ على مستواه المتقدّم بين اللاعبين في ما يعرف بالـ"Ranking System". يشعر أحيانًا بالذنب، فهو مقتنع بأنّ «إسرائيل» عدو، «بس بتاخدنا الحماسة ومنحسّ بالفخر وقت نقاتلهم ولو عم نلعب»، علماً ان الإسرائيلي هو المنتصر الفعلي هنا لأنّه حاز على تحويل العلاقة مع بعض العرب واللبنانيين من علاقة عداء بسبب التصميم على تحرير فلسطين الى علاقة طبيعية بين الجيران، وكأن الإسرائيلي لم يرتكب أي جريمة ولم يحتل ارضاً ويقتل اهلها ويهجّرهم.


لا يعني ذلك شيئاً لسامي (14 سنة) الذي تعرّف الى «صديق جديد» من خلال لعبة “League of Legends” التي يخوضان من خلالها، ضمن فريق واحد، معارك من أجل الوصول إلى قواعد الفريق الآخر وتدميرها. اكتشف سامي لاحقاً أنّ «الصديق» لاعب إسرائيلي «محترف» وذائع الصّيت في مسابقات عالمية. لكنّه لا يبالي كثيرًا طالما أنّه كوّن «صداقة» مع «لعّيب على مستوى!»، كحال الكثيرين من أبناء جيله. ما يعنيه بشكل أساسي هو «إنجازاته الشخصية» في اللعبة.
في سياق مشابه، وفي ظلّ الأوضاع الاقتصادية المزرية، لجأت سمر، وهي خرّيجة كومبيوتر ومعلوماتية، إلى تقديم طلبات عمل لدى شركات في الخارج، مع انعدام الفرص لإيجاد عمل يتناسب مع قدراتها وطموحاتها في لبنان. أرسلت سيرتها الذاتية إلى عدد من الشركات العالمية، لتفاجأ بعد مدّة باتصال من جهة أمنيّة رسمية تستدعيها للتحقيق معها بتهمة التواصل مع العدو. وتبيّن خلال التحقيق أنّها راسلت شركة تعنى بالأمن السيبراني في إحدى الدول الأوروبية من دون علمها بأنها شركة إسرائيلية.
كثيرون لا معرفة لديهم عن عالم التجسّس، أو أقلّه عن ماهية حدود التواصل والتعامل مع الآخرين، يتحدثون إلى أشخاص مجهولين، عبر المواقع والمنتديات، عن تفاصيل حياتهم الشخصية ومشاكلهم اليومية.
يشعر كريم أحيانًا بالذنب فهو مقتنع بأنّ «إسرائيل» عدو «بس بتاخدنا الحماسة ومنحسّ بالفخر وقت نقاتلهم ولو عم نلعب»


وتكمن الخطورة في سهولة التواصل مع أفراد من الكيان الإسرائيلي في ظلّ الانفتاح الذي خلقته ثورة المعلوماتية وفي غياب الرقابة وجهل الكثيرين بأدنى معايير السلامة والحذر في ما يخصّ التفاعل عبر الإنترنت، وبشكل خاص منتديات ألعاب الفيديو بما تشكّله من مساحة جاذبة للشباب والناشئين، وأرضًا خصبة لكل أنواع الانتهاكات بدءاً بالتعرّض لخصوصية الفرد وليس إنتهاءً بالوقوع في شبهات التواصل مع العدو. وغالبًا ما يغيب عن بال كثيرين مسألة حسّاسة جدًا تتعلق بالسقوط في فخّ التطبيع، وبالتالي مجانية الإعتراف بحق العدو في الوجود، وهذا ما يسعى إليه الأخير بشكل كبير لتحقيق خروقات وانتهاكات في الفضاء الإلكتروني بعد فشل أساليبه التقليدية، عبر العديد من الطرق والحيل المبتكرة التي تجذب فئات وشرائح واسعة من المجتمع. إذ تحوّل هذا الفضاء الخيار الأفضل للتجنيد، عبر مواقع الإنترنت وشبكات الإعلام والتواصل الإجتماعي ومنتديات ألعاب الفيديو، بعدما أصبحت مراقبة طرق الإتّصالات الأخرى، لا سيما الهواتف المحمولة، أكثر سهولة. بينما التواصل عبر الانترنت لا حدود لوسائل التمويه من خلاله.

حرب نفسية إلكترونية
الحرب النفسية الإلكترونية هي نشاط عدواني تمارسه الدول المستعمرة وذات السلطة ضد الدول والجماهير المستضعفة باستخدام تكنولوجيا الاتصال الحديثة من بث فضائي وإنترنت بمختلف خدماته وأنواعه، بهدف التأثير على الجمهور المستهدف وإثارة مخاوفه من خلال ما تبثّه من معلومات هائلة ومضلّلة أو من خلال بثّ سيل ضخم من الأفكار التي تؤدي الى إرباك الآخر وتشويشه.



ملفّات المستهدفين للتجنيد
أضحت مواقع التواصل الإجتماعي ومنتديات ألعاب الفيديو كنزًا ثمينًا للاستخبارات الإسرائيلية، وباتت الوسيلة الأسهل والأسرع بالنسبة إليهم لجمع المعلومات والرّصد وتجنيد العملاء.
• استغلال المعلومات الشخصية لا سيما الواردة منها في وسائل التواصل الاجتماعي (Facebook, Twitter, Clubhouse, LinkedIn...) والتي تشمل الإسم، تاريخ ومكان الولادة، السكن، الدراسة، العمل، وسائط الصور والفيديو... واستخدامها للإيحاء بأنّ العدو يعلم تفاصيل شخصية عن حياة الأفراد المستهدفين.
• الإحتياجات المعنوية والماديّة لهذا الشخص تشكّل مادّة أساسيّة للعدو (وضع مالي واقتصادي، وضع اجتماعي ومعيشي، دوافع حقد وكراهية تجاه المجتمع والدولة ...)


دليل الحيطة و الحذر


• تقليل الاستخدامات الحسّاسة لوسائط الإنترنت وعدم مشاركة معلومات وتفاصيل شخصيّة قد تكون ذات حساسيّة وتتيح بطبيعة الحال أرضية سهلة للعدو لتشكيل ملفّات للأشخاص المستهدفين لاستخدامها في إطار السعي لتجنيدهم.

• تجنّب الدخول في محادثات وحوارات مع أشخاص إسرائيليين أو يشتبه بأنّهم على صلة بكيان العدو (مثال على ذلك الضابط الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، الناطق باسم جيش الإحتلال باللغة العربيّة، الذي يلقى تفاعلاً كبيرًا في صفحته على موقع تويتر من الجمهور العربي. ورغم أن أغلب هذه التعليقات معادية لإسرائيل، إلا أنها في حد ذاتها اعتراف بهذا الشخص وبالكيان الذي يمثّل)، حتّى وإن كان الهدف من ذلك توجيه الشتائم والإهانات. إذ أنّ مجرّد النقاش معهم يضع الشخص في شبهة التطبيع والتواصل مع العدو لأنّه بذلك يعطي شرعية للطرف المقابل (في حالة ألعاب الفيديو أو مواقع الدردشة والتواصل الاجتماعي والتّعارف يجب الإنسحاب فورًا إذا ما تبيّن أنّ أحد المشاركين فيها «إسرائيلي»، ويمكن معرفة ذلك من خلال إسم الشخص المشارك/علم بلاده/اللغة ...)

• ضرورة التنبّه إلى عدم المشاركة في أي فعالية عبر الفضاء الإلكتروني إذا كان أحد رعاتها أو المشاركين فيها «إسرائيلياً».

• في حال التواصل عبر الإنترنت من أجل إيجاد فرص عمل مع شركات أجنبية، لا سيما المتعدّدة الجنسيات، يجب البحث بشكل معمّق عن تفاصيل كل شركة (البلد الأمّ، المؤسّسون، مكان العمل، الرؤساء والمدراء، أصحاب الشركات ...) والتقصي قدر الإمكان عن أي صلة لأي من هؤلاء بكيان العدو.

• تتبّع عناوين الـ IP Address لتحديد مكان الأشخاص المجهولين مع إمكانية حجب المواقع والصفحات التي تصدر من «إسرائيل».


«الوحدة 8200» ووحدة «حتساف»
منذ ما قبل نشأة الكيان الصهيوني، تبلور ما يعرف بالعقيدة الأمنيّة، وهي أحد المرتكزات الأساسية التي تضمن تفوّقه في الحروب واستمراره في الوجود. وبطبيعة الحال، فإنّ الأمن السيبراني هو امتداد لهذه العقيدة، وقد أولى العدو اهتمامًا كبيرًا لهذا الجانب لا سيما أنّه ضليع في هذا العالم على مختلف المستويات (الأكاديمية والعسكرية/الأمنيّة)، فهذا حرفيّا ملعبهم.

صورة مأخوخذة من موقع «إسرائيلي»

تأسّست «الوحدة 8200» عام 1952، وهي تتبع لجهاز «أمان - شعبة الاستخبارات العسكرية» المتخصّصة في حرب السايبر والإنترنت وأمن وتكنولوجيا المعلومات، وتتألّف من جنود وضبّاط من نخبة الجيش الإسرائيلي من أصحاب الخبرات والاختصاص في مجال أمن المعلومات، إلى جانب مجموعة من المتدرّبين الناشئين الذين يعملون ليلاً ونهارًا في مهام رصد وتتبّع مواقع التواصل والإعلام الاجتماعي وبشكل خاص في العالم العربي.
لا يقتصر عمل الوحدة على الرصد في مواقع التواصل الاجتماعيّ، بل يشمل أيضاً تجنيد العملاء، وإنشاء حسابات وهميّة لبثّ الإشاعات، وشنّ حروب نفسيّة ضدّ الأهداف المحدّدة من أعداء «إسرائيل» بعد دراسة مستفيضة عن بيئة الهدف المراد استهدافه والمشاكل التي يمكن أن تشكّل ثغرات لاختراقها من أجل التأثير عليه سلباً. كما يتمّ البحثُ عن أيّة معلومات منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي حول الهدف من صور أو فيديوهات أو منشورات واستغلالها بعد معالجتها (تزوير، قصّ ومونتاج) لترويج ما يمكن الاستفادة منه ضدّ الهدف.
العديد من الضبّاط والجنود السابقين في هذه الوحدة أسّسوا شركات كبرى حول العالم تعنى بالأمن السيبراني، كشركات Palo Alto Networks, Check Point, NSO Group.


الإنسحاب موقف


كما هي الحال في الميدان الرياضي، الخطوة الوحيدة المطلوبة في العالم الافتراضي هي الانسحاب مباشرةً من مواجهة أو مجادلة أي إسرائيلي وتفويت فرصة تحقيقهم الفوز بشرعية واهية قد نقدّمها لهم على طبق من ذهب