منذ عامٍ ونصف عام تقريباً، بدأ محمد سرور عملاً إضافياً بوظيفته في مصلحة تسجيل السيارات والمركبات الآلية. لم يبحث عن هذه الوظيفة لتأمين مدخول إضافي لعائلة تختنق من أزمة مستمرة كما يفعل الكثيرون اليوم، وإنما كانت قدراً فرضه مرض السرطان الذي باغته بعد انتصاف العمر. «العمل الجديد» يفرض على محمد الوقوف أمام أبواب لم يعهدها... ليشحذ كلفة علاجه الذي باتت المستشفيات الخاصة تسعّره بالدولار «الفريش»، وقد أُجبر على فعل ذلك عندما وجد أنّ الدولة «التي من المفترض أن تحمينا تراقبنا كيف نموت»، يقول.قبل أن يُصبح على هذا الحال، كان محمد يعيش حياة مستقرة «كأي موظف دولة». كانت تلك الحياة «مركلجة» على أساس راتبٍ يبلغ مليوناً و700 ألف ليرة لبنانية. في أيام الرخاء، كان المبلغ يكفي لتعيش العائلة المؤلفة من 6 أفرادٍ «حياة اللوردات»، بحيث لم تكن المصاريف مكلفة، وأقصى ما كان يزعجه مصروف البنزين للخروج من منزله في برجا إلى مكان عمله في بيروت. مع ذلك، كانت «مستورة».
ليس المرض ما يوجع وإنّما ما تفعله بنا المستشفيات والدولة (مروان بو حيدر)

«هيداك المرض»
كبر الأولاد بذلك الراتب، ولما بات همّ المعيشة أقلّ وبات هو أقرب إلى الراحة، جاءه المرض. لم يكن في الحسبان بداية أن يكون ما عاناه من آلام ولا يزال مرتبطاً بـ«هيداك المرض»، إلى أن أتت النتيجة إيجابية. كان ذلك قبل عامٍ ونصف عام تقريباً، عندها انقلبت حياة محمد رأساً على عقب. كان عليه أن يبذل جهداً إضافياً للمواجهة: مصاريف البيت التي ازدادت كلفتها مع انهيار سعر الليرة وضآلة راتبه ومرض السرطان الذي ضرب إحدى رئتيه قبل أن ينتقل إلى الأخرى وظهره في المرحلة الحالية.
كلّ 21 يوماً تجتمع العائلة لتسأل: «في دوا أو ما في؟»


بدأ محمد حياته الجديدة مع المرض، فكان عليه أن يُضيف إلى العائلة «مصروف الأدوية والصور الشعاعية والعلاجات في المستشفى». مع ذلك، لم تكن البداية «صعبة»، يقول. على الصعيد النفسي، لم يجد محمد صعوبة في تقبّل المرض، فـ«أنا طالع منو بإيماني»، وعلى الصعيد المادي، كان أقدر على تسيير أمور طبابته، إذ كانت تقديمات صندوق تعاونية موظفي الدولة التي ينتسب إليها تغطي كلفة استشفائه وأدويته. غير أن الواقع لم يكمل بتلك السلاسة، إذ أدى تسارع الانهيار إلى ارتفاع كلفة الاستشفاء وكلفة بعض الأدوية التي يستخدمها مرضى السرطان، فيما لم تعد تغطية تعاونية موظفي الدولة تفي بالغرض. ومنذ ما يقرب من ستة أشهرٍ، بات محمد يدفع فاتورة إضافية إلى فاتورة التعاونية. في البداية، كان المبلغ مليون و400 ألف ليرة و«كان مقدوراً عليه»، ثم بدأ هذا المبلغ كلّ 21 يوماً، وهو موعد العلاج الكيميائي، يزداد «من دون أن نفهم ما هي تلك الزيادة». من مليون و400 ألف إلى مليون و700 ألف ـ التي كانت توازي راتبه في ذلك الوقت ـ إلى مليونين و200 ألف إلى 135 دولاراً أميركياً، و185 دولاراً دفعها قبل أيام لإتمام الجلسة ما قبل الأخيرة، «مليون ليرة منها استحصلت عليها من إحدى الجمعيات وبقية المبلغ من الناس».

من الخاص إلى الحكومي... فالخاص
لا يدفع محمد كل تلك الدولارات بدل سعر الدواء، فحتى اللحظة الراهنة لا يزال الدواء مدعوماً من قبل مصرف لبنان، وإنما يدفعها بدل المستلزمات التي تُستخدم في العلاج والإقامة في المستشفى... من دون احتساب كلفة فحص الـpcr الذي يُجريه كل 21 يوماً قبل موعد العلاج، وكلفة الأدوية الشهرية التي يحتاجها محمد والتي تبلغ قيمتها 4 ملايين ليرة.
مطلع كلّ شهر، يحتاج محمد إلى سبعة ملايين ليرة بدل علاجاته في المستشفى وفي المنزل، تزيد مئات الليرات مع موعد كلّ جلسة، أي ما يعادل أربعة رواتب من تلك التي يتقاضاها من الدولة. يُضاف إليها «الصورة الملونة» التي يُجريها كل ثلاثة أشهر «والتي كانت كلفتها آخر مرة ثلاثة ملايين ونصف».

يدفع محمد 7 ملايين ليرة شهرياً بدل كلفة علاجاته


إلى اللحظة التي يُكمل فيها محمد جلسته السادسة من المرحلة الثانية من العلاج، لا يعرف ما هي طبيعة هذه الزيادات. مع ذلك، ليس قادراً على الانسحاب، لأن «مرضى السرطان لا يستطيعون تبديل الأطباء والمستشفى»، خصوصاً أنّ الطبيب المعالج يتّبع بروتوكولاً معيناً.
كانت المرة الوحيدة التي حاول فيها محمد ترك المستشفى الخاص حيث يُتابع علاجاته عندما أبلغه المحاسب أنّ كلفة 20 جلسة علاج شعاعي تبلغ 15 مليون ليرة. حينها شعر بالعجز، فأخبر الطبيب بأنه ليس قادراً على أخذ العلاج لأنه لا يملك ثمنه. عندها، «طلب مني الطبيب الذهاب إلى مستشفى بيروت الحكومي حيث يتابع مرضى هناك». فوجئ محمد بكلفة العلاج «حيث تسعّر عشر جلسات بمليون و400 ألف ليرة»، كما فوجئ بالفارق الذي يجبر على دفعه في المستشفى الخاص كي يتلقّى علاجاً لا يختلف عما هو في «الحكومي». غير أنّ ذلك لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما عاد محمد إلى المستشفى الخاص «بعدما استمرت العشر جلسات شهراً كاملاً بسبب تعطّل الماكينة المستمرّ، وهو ما دفع الطبيب لإضافة 4 جلسات للتعويض».
أجبر المرض وجشع المستشفيات محمد لطرق أبواب الجمعيات الخيرية لتحصيل كلفة علاجه. فعل ذلك لأنه لم يجد أحداً إلى جانبه، كما غيره من مرضى السرطان «لا الوزارة ولا الدولة بحد ذاتها». طرق أبواباً كثيرة، وعندما انكسر، لم يجد أمامه سوى «طريق المدينة الرياضية»، حيث وزارة الصحة العامة، إلا أنه لم يجد أحداً، «وعندما اتصلت، أحالوني إلى أحد الأشخاص الذي أحالني بدوره إلى طبيب في مستشفى بيروت الحكومي، فتواصلت معه للسؤال عن الدواء علّني أستكمل العلاج لديه، فقال لي إنه غير متوفر حالياً وأن أتصل في وقتٍ آخر».
كانت هذه التجربة القصيرة هي خلاصة تعاطي الدولة مع مرضى السرطان المتروكون لحالهم، ففي الوقت «الذي تجهّز فيه دول العالم مرضى السرطان لنهاية الحياة، فيما هنا نحن نشحذ حبة الدواء وبدل العلاج».
لم يكن محمد يرغب بأن يصل إلى هنا ـ إلى الشحادة ـ إلا أن المرض ولا مبالاة الدولة وجشع المستشفيات دفعوه لذلك. «أنا مش حرامي. أنا موظف. بس هيك ساقبت»، يردف محمد بغصة.

الفارق كبير بين كلفة العلاج في الحكومي والخاص


زعل الرجل اليوم ليس من الخبيث، بقدر ما هو من مرضه بـ«هالدولة الزبالة». ليس المرض هو ما يوجع، وإنما «ما تفعله بنا المستشفيات والدولة». وهو وجع يتجدّد كل 21 يوماً «حيث نعيش كل جلسة على أعصابنا أنا وأولادي وغالباً ما يكون السؤال: في دوا أو ما في؟ وفي كلتا الحالتين، الهاجس هو نفسه تأمين المال لتحصيله وغالباً ما تؤمنه المستشفى... بابتزازنا بالكلفة». مع ذلك، لا أحد يحرّك ساكناً، فيما الدولة خاضعة للمستشفيات الخاصة ولفرقة من المستوردين يحبسون الدواء في مستودعاتهم ويستغلّون وجع 29 ألف مريض سرطان يتابعون علاجاتهم اليوم.
اليوم، لا يوجد سوى حلّين بالنسبة لمحمد، فإمّا «أن تتولى الدولة استيراد الدواء وتختار مكاناً واحداً لعلاجنا فيه»، وإما «فليرمونا في البحر»، وإن كان يجد نفسه بعد عام ونصف عام من الذلّ أقرب إلى التصديق بأنّ «الأسهل على تلك الدولة التي تقبل بأن تسحب المستشفيات الخاصة دمنا بأن نموت أو نُرمى في البحر».
محمد ليس سوى واحد من أصل آلاف المرضى الذين يذلّون اليوم على أبواب المستشفيات. يموتون نفسياً قبل أن يموتوا من فقدان الدواء أو غلاء كلفته. هو وهم ضحايا هذه الدولة ـ وزارة الصحة ووزارة المال وكل معني بملف الدواء في الدولة ـ الخاضعة والمتواطئة مع فرقة المستوردين والمستشفيات والصيدليات.