باليرمو | للمرّة الأولى في تاريخ العلاقات بين ضفّتَي المتوسط، تطلق مجموعة من ممثلي منظمات ومؤسسات وبلديات وكُتّاب من دول حوض المتوسط (الذين اجتمعوا في باليرمو الإيطالية نهاية الأسبوع الماضي)، مبادرة حملت عنوان «نحو اتفاقية الحقوق في منطقة حوض المتوسط». تهدف المبادرة إلى الاعتراف بالمنابت المشتركة في التاريخ والجغرافيا، وفي ثقافات شعوب حوض المتوسط بغية بلورة هُوية متوسطية جامعة تشكّل منطلقاً للعلاقات بينها. وللمرّة الأولى يحصل اعتراف متبادل بالثقافات المتنوّعة كما هي، من دون شعور بالفوقية أو الغلبة، لا بل يتمّ الاعتراف بأن بعض الأفكار الغربية الاستعمارية، كانت مدمّرة لموارد الشعوب وحياتها بين ضفّتَي المتوسط.
فقد وقّع المشاركون على اتفاقية تمّت صياغتها نتيجة تفاعل أفكار المشاركين في مجموعات العمل التي تناولت مواضيع تتعلق بالسلام والصحة والماء والغذاء والمعرفة والموارد الثقافية والبيئية، التي اعتبرتها «خيرات عامة»، تنتفع بها الشعوب المتوسطية ضمن إطار يُراعي الاستدامة الشاملة والفروق بين الجنسين والمساواة والأمن والتغيّر المناخي.

صراعات دول خارجية
ترى الاتفاقية أن شعوب حوض المتوسط علاوةً على أنهم أصحاب حقوق، هم أيضاً لاعبٌ جيوسياسي جماعي وفاعلٌ، وأنه لا يمكن أن يكون هناك تحوّل اجتماعي فعلي في بلدان المتوسط إلّا من خلال عمل توعوي يرفض كلّ أشكال «الاستعمار الثقافي»، ويقوم على تنمية العلاقات الواعية، وعلى احترام الإرث الثقافي والتراث التاريخي العريق، واستعادة الهُويات والتقاليد المحلية وتعزيزها وصونها، وذلك بالاستناد إلى شبكة منظّمة ومشترَكة بين المؤسسات المحلية وجمعيات المجتمع المدني.
لم تغفل الاتفاقية ما يدور في المنطقة من حروب مدمّرة، وتعبث في بلدانها صراعات تغذّيها دولٌ من خارج المنطقة؛ متهمة الدول المهيمنة في المنطقة بدعم من الدول الأجنبية والشركات المتعدّدة الجنسيات، بأنها تنفّذ استراتيجيات وسياسات تدمّر مواردها وتتسبّب في زيادة الفقر وانعدام المساواة وتمهد لخصخصة الأملاك العامة. ورأت أنّ التطرّف الإيديولوجي والنَّزْعات القومية المتزمّتة تتحكم أكثر فأكثر في سياسات الدول المفضية إلى الانغلاق على الذات وإلى ممارسات غير إنسانية وإقصائية؛ وإنّ موجات الهجرة الكبرى تشهد على أن أوّل ضحايا المناخ هم بالتحديد أولئك الذين يهربون من التصحّر، وأوّل ضحايا الحروب هم أولئك الذين يفرّون من الحروب المحلية، وأول ضحايا انعدام الأمن هم أولئك الذين يغادرون دولاً يُرغَم فيها أبناؤها على الخضوع للعنف؛ وأنّ معاناة الذين يُسمّون «مهاجرين» تثير القلق وتدعو إلى التأمل والتفكير، ومن شأن هذه المشاعر أن تعزّز ولادة إنسانية جديدة ووطن مشترَك.
موجات الهجرة الكبرى تشهد على أن أوّل ضحايا المناخ هم الذين يهربون من التصحّر


حذر لبنانيّ
واعتبر المجتمعون أن حوض المتوسط منطقةٌ أساسية في الاقتصاد العالمي، إذ يمرّ أكثر من 15% من التجارة البحرية العالمية عبر مياه هذه المنطقة، و20% من القيمة الاقتصادية الدولية مرتبطة بها. ولكن حين تم الحديث عن «دور هذا الحوض المتعاظم بوصفه منتجاً للطاقة»، تحفّظ صوت من لبنان عن هذا الاتجاه محذّراً من أن أي حادثة نفطية أثناء التنقيب أو الاستخراج والنقل، ستكون مدمّرة في بحر صغير وشبه مغلق.
وتعهّد المجتمعون بالعمل على تحسين نوعية العيش في حوض المتوسط، من خلال الاعتراف بقِيَمه وتقاليده وتراثه وهُويته وبكل الشروط اللازمة لتوكيد استقلاله وقدرته على الحكم الذاتي؛ وأنّ استدامة العمليات المفضِيَة إلى استقلال موارده الغذائية وموارد الطاقة فيه والإدارة الجماعية لثرواته وخيراته المشترَكة، وأنماط الإنتاج والاستهلاك القائمة على تقييم الموارد المحلية والاندماج الاجتماعي، هي الشروط السابقة على تحديد الأنموذج التنموي الذي يجب ألّا يكون مرهوناً للمساعدات الخارجية أو غير مباشر، بل معتمداً على القدرات الذاتية وعلى إنتاج علاقات التضامن بين مجتمعاته المختلفة وداخل هذه المجتمعات؛ وأنّ المشاركة ـ في هذا السياق ـ ليست إثراءً لا بدّ منه للديمقراطية فحسب، وإنما هي أيضاً أداةٌ حقيقية لتحرير الحياة اليومية والحياة الجماعية، وهي ممارسة اعتيادية لإدارة (حوكمة) تستهدف تحسين نوعية حياة كل فرد.

نحو سرديّة جامعة
كما أعلن المجتمعون الاتفاق على «أن حوض المتوسط هو بيت لنا جميعاً، وبهُويات متعددة من أجل الاعتراف بسردية مشترَكة لتاريخ متوسطي، من دون إغفال التعدد والتنوّع فيه». وعلى بلورة ونشر سردية جديدة لحوض المتوسط تروي تاريخه بدءاً من القرن التاسع عشر، وتُعيد النظر في مرحلة الاستعمار وما بعد الاستعمار وآثارها ونتائجها؛ ووضع أطلس تاريخي لحوض المتوسط؛ ومعرفة ودراسة وتقييم اللغات واللهجات المحكيّة في سائر أنحاء منطقة حوض المتوسط، وقلب هيمنة الشواطئ الشمالية على الشواطئ الجنوبية.
وتولي الاتفاقية اهتماماً كبيراً بشأن استعادة تملّك الموارد الإقليمية والحفاظ عليها وتفعيلها من قِبَل بلدان حوض المتوسط، ومن منظور الاستدامة الشاملة من وجوهها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية كافة. و»تحرير وتفعيل القدرات والطاقات لما فيه مصلحة الشعب وعلى حساب المصالح السياسية والاقتصادية العائدة لدول خارج منطقة حوض المتوسط».
كما تدعم وتشجّع التوسّع في الاعتماد على موارد الطاقات المتجدّدة التي تُعتَبَر منطقة حوض المتوسط أفضل منطقة لتنميتها، ودعم الانتقال من الاقتصاد القائم على وقود الأحفوري، إلى الاقتصاد الأخضر.
كذلك تشدد على تشجيع المبادرات الرامية إلى التصدّي للمافيات (التي أصبحت معولمة) ولتدخّلها المتزايد في الأنشطة الاقتصادية في كل مكان، وللرقابة التي تمارسها على الأراضي كافة، كذلك تعزيز الاتفاقات بين الهيئات والجمعيات في المنطقة من أجل إنشاء «اتحاد جزر البحر المتوسط» للسياحة المتجوّلة وفي شتّى الفصول، والاهتمام بقضايا النقل والشحن من مكان إلى آخر في عموم منطقة المتوسط، وتعزيز الإدارة المستدامة لمياه المتوسط وشواطئه ووقف تدهور مناطقه الساحلية.



الصحة والإعلام المستقلّ
وأخيراً تؤكد الاتفاقية على الحق في سلامة الصحة والحصول على الرعاية الطبية، والتشديد على التزام شعوب المتوسط بإلغاء براءات الاختراع في مجال اللقاحات التي هي من "المنافع العامة"، واتّخاذ مبادرات ترمي إلى تعزيز النظم الصحية من خلال استثمار مكثَّف في الرعاية الصحية الأوّليّة، وفي معالجة مشكلات الأوبئة، وإطلاق حملات للتثقيف الصحي كالتزام النظافة الغذائية، والتثقيف الجنسي، والأمراض الناتجة من العلاقات الجنسية وتفعيل وتعزيز "المراكز الصحية"، والإسهام في الأبحاث حول العلاقة بين التغيّر المناخي والأمراض.
كذلك كان هناك طرح لبناني بإلغاء براءات الاختراع لما يُسمى "التكنولوجيا الخضراء"، أسوة باللقاحات، والعودة إلى النظام الغذائي المتوسطي النباتي القديم، كمساهمات جوهرية متوسطية في حل مشكلة تغير المناخ بالإضافة إلى إعادة النظر في المفاهيم الغربية المسيطرة مثل التنمية والتقدم والرفاهية.


حق الانتقال وتنظيم الهجرة
تعتبر الاتفاقية أن تنقّل البشر حيثما يشاؤون في العالم هو حقٌّ لا يمكن التنازل عنه وغير قابل للتصرف به. "فلنعمَل على وقف المجازر في بلدان حوض المتوسط، وعلى فتح سُبُل الهجرة المشروعة والآمنة". والمطالبة بالحق في الهجرة (خارج منطقة حوض المتوسط) على نحو ما هو منصوص عليه في المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (عام 1948)، والمطالبة كذلك بالحق بالانتقال من منطقة إلى أخرى والإقامة فيها (داخل منطقة حوض المتوسط). وتجريب نماذج لحوكمة الهجرات تكافح أنشطة قراصنة التهريب عبر البحر، وذلك بالتعاون مع المجتمع المدني المنظَّم، ما يُتيح جمع شمل العائلات وفتح ممرات إنسانية.