الخطأ الطبي بين العلم والإعلام
تتحرك لجنة التحقيقات في نقابة الأطباء بالتحري لإثبات وقوع خطأ طبي عند وصول شكوى. وتسعى اللجنة مبدئياً الى حل الخلاف بالتراضي من دون اللجوء إلى القضاء. لكن عند الوصول إلى مفترق طرق مع أهل المريض، تذهب اللجنة إلى تحديد المسؤولية الطبية من خلال التحقق في مدى تقيد الطبيب المتهم بالأصول العلمية في العلاج. يقول الدكتور مروان الزغبي لـ «القوس» إنهم ينظرون في كل الزوايا من ناحية الضرر، وظروف الطبيب، وإمكانيات المستشفى، ومدى الجهد المبذول، ويؤكد أن «وجود علاقة تعاقدية بين المريض والطبيب أمر ضروري وإلا لا يمكن مساءلته». من جانب نظري، يمكن عدّ الفشل في التشخيص أو القيام بعملية غير ضرورية أو وصف جرعات دوائية زائدة مثلاً أخطاء طبية. ولا بد أن تحلل اللجنة سياق "الخطأ الطبي" لتحديد المسؤوليات. كما أن وقوع ضرر على المريض او وفاته لا يؤدي بالضرورة الى إدانة الطبيب، خصوصاً إذا لم تكن هناك علاقة سببية واضحة بين الضرر او الموت وتصرف الطبيب. السؤال الأساسي الذي يفترض ان يطرح خلال التحقيق وفقًا للزغبي هو «هل كان هناك شيء يجب أن يفعله الطبيب وتخلف عنه لانقاذ المريض أو لتخفيف الضرر؟»
لكن غالباً ما تستبق وسائل الاعلام صدور نتائج التحقيق وتنشر بعض الصحف والتلفزيونات أجزاء من التقارير يمكن ان تضلل الرأي العام وتسهّل الإدانة قبل صدور الحكم النهائي عن الهئية النقابية والقضاء المختصّ.
ويحمّل معظم الأطباء الذين تحدّثوا الى "القوس" المسؤولية لوسائل الإعلام إذ يدّعون أنها «تمارس دوراً سيئاً» في هذا الملف حين تعرض وجهة نظر أهل المريض وتتجاهل المعلومات العلمية والأصول الطبية والمعطيات المخبرية. فحتى لو أثبتت التحقيقات براءة طبيب بعد الاطلاع على المستندات العلمية، كيف سيعوض الضرر؟ وهل سيصدق الناس أن الطبيب الذي كان الاعلام قد ادانه بريء فعلاً؟
تشرح الاختصاصية في علم النفس العيادي في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتورة دينا عينا أن العديد من الناس «لا يفرّقون بين القصور الطبي والإهمال الطبي» وبالنسبة لهم تقع المسؤولية دائماً على الطبيب اذا تدهورت صحة المريض. يوافقها الطبيب الاختصاصي بأمراض القلب والشرايين الدكتور موسى يوسف، ويلفت إلى «غياب ثقافة طبية إعلامية" محملاً مسؤولية التضليل الإعلامي لبعض وسائل الإعلام ولوزارة الصحة ونقابة الأطباء.
تقييم الضرر والمنافسة بين المستشفيات
كيف تقوم لجنة التحقيقات في نقابة الأطباء بالتحري عن وقوع خطا طبي؟ يشير الزغبي إلى أن النقابة وضعت «نظاماً داخلياً جديداً وواضحاً لسياسة التحريات» يعتمد على مراجعة ملف المريض في المستشفى أولاً للتحقق من المسؤولية «من دون طلب رأي المستشفى» إضافة إلى الاطلاع على مدونات الطبيب والممرضة والفحوصات وأقوال أهل المريض وما تم صرفه في الصيدليات. ويؤكد رئيس لجنة التحقيقات على أن الملف ليس سرياً، و«لا شكاوى نائمة في الأدراج بعد الآن»، إذ يمكن لأي طرف معني أن يبدي رأيه في الحادثة ويناقش فيها. علماً ان بعض الأطباء الذين رفضوا نشر أسمائهم تحدثوا عن وجود "محسوبيات ومصالح وأجندات بين المستشفيات"، وعن "غياب جهة محايدة لإثبات وجود خطأ طبي". ويلفت أحدهم الى «التغاضي عن أخطاء كارثية لأطباء مشهورين في الوقت الذي يحساب فيه أطباء آخرون عن ذنب لم يرتكبوه فقط بسبب الخضوع إلى ضغوطات إعلامية».
مراجعة المدونات الطبية: هل تكفي؟
تقودنا الحوادث السابقة التي أذيع فيها عن تلاعب بمستندات التحقيق إلى السؤال حول إذا ما كانت آلية التحقيقات التي تعتمدها لجنة التحقيقات كافية. فقد يبدو التوقف عند مراجعة المدونات العلمية أمراً غير كاف بسبب كثرة المعطيات المتغيرة التي قد تؤثر عليه خصوصاً أن أهل المريض قد يغفلون عن طلب نسخة «أصلية» للملفات الصحية، بخاصة إذا كان بينهم وبين الطبيب صداقة أو قرابة أو علاقة ثقة بالمجمل. كما أن ابتزاز أهل المريض ليس صعباً من أجل تلفيق الأقوال والمعطيات. فهل تكفي هذه المدونات حقاً؟
يحمّل معظم الأطباء الذين تحدّثوا الى "القوس" المسؤولية لوسائل الإعلام إذ يدّعون أنها «تمارس دوراً سيئاً»
يرد يوسف بأن هذه المدونات «هي الأساس عند القيام بتحقيق»، وتتردد عينا في حسم «إمكانية للتلاعب بالمعطيات». تتفاقم المشكلة في ظل ضعف التوثيق الصحي عموماً في لبنان، عدا عن وجود المحسوبيات والأجندات الاستشفائية. وقد تناولت دراسة اكاديمية وضعتها مديرة طبية في مستشفى فينكس للأطفال في الولايات المتحدة الاميركية الحاجة إلى وجود اختصاصيي سلوكيات بشرية عند دراسة المعطيات التي يقدمها الجسم التمريضي. فالأطباء والممرضون «ينقلون الأحداث بشكل مشوش أو غير كامل عند التعرض للضغوطات».
لماذا تحدث الأخطاء الطبية؟
يحمّل النظام العام بمستشفياته ووسائل إعلامه ومواطنيه الأطباء «أكثر من طاقتهم»، بحسب الدكتورة عينا، التي تلفت إلى أن حدوث خلل في القطاع الصحي لا تقع مسؤوليته على كاهل الطبيب وحده، لأنه جزء من القطاع ولكن هناك جسم إداري وتمريضي وهناك معدات ومختبرات وغيرها من العناصر التي تكون مسؤولة أحياناً عن حدوث خلل. وتضيف أن ازدياد الضغوطات الاجتماعية والمادية والشخصية «يرفع احتمال ارتكاب أخطاء في كل المجالات بما في ذلك المجال الطبي».
وجود علاقة تعاقدية بين المريض والطبيب أمر ضروري وإلا لا يمكن مساءلته
ويتفق الأطباء عموماً على ثلاث نقاط يعتقدون بأنها تساهم في وقوع الأخطاء الطبية: ضعف المتابعة العلمية المستمرة، والخجل من إظهار الطبيب عن جهله أو اللجوء إلى استشارة اختصاصيين عند الشعور بالعجز، والكلفة الباهظة لفحوصات الأطباء والمتابعة الطبية بشكل عام. يؤكد يوسف أن النقطة الأخيرة «من مسؤولية النقابة بشكل أساسي». فالمرضى لم يعد لديهم قدرة مادية تكفي للمتابعة الاستشفائية، خصوصاً في ظل عدم وجود تشريع يحدد سقفاً لفحصية الطبيب، ما يعني ارتفاع خطورة حصول أخطاء طبية، إذ أصبح هناك تفاوت كبير بين بدلات الأتعاب التي يطلبها الأطباء، ما سيعزز الطبقية بين المرضى وسيجبر الفقراء إلى اللجوء إلى أطباء غير مؤهلين أو مرخصين أو متابعين لتطورات المهنة.
معجم الأخطاء الطبية
■ عدم التبصر: غياب الحذق أو الدراية و نقص المهارة.
■ عدم الاحتياط: إقدام الطبيب على عمل طبي خطير مدركاً خطورته ومتوقعاً ما يحتمل أن يترتب عليه من مضاعفات سلبية، من دون أخذ الإحتياطات التي من شأنها الحيلولة دون حصول هذه المضاعفات.
■ الإهمال وعدم الإنتباه: أن يقف الفاعل موقفاً سلبياً، فلا يتخذ واجبات الحذر التي تحول دون وقوع النتيجة الإجرامية، والإهمال قد يقع بفعل الترك أو الإمتناع. كما أنه قد يتحقق عندما يدرك الجاني الأخطار التي تترتب على مسلكه ورغم ذلك لا يتخذ الاحتياطات اللازمة لتجنبها.
■ عدم مراعاة النظم والقوانين: يكفي ثبوتها لقيام مسؤولية جنائية غير عمدية في حق الفاعل.
أزمة ثقة تحتاج الى علاج
نور كانت تعاني من اوجاع في البطن ولدى لجوئها الى الطبيب قرر إجراء عملية جراحية لها بعدما زعم انها تعاني من التهابات في {الزائدة}. لكن عندما زارت طبيباً آخر تم تشخيصها بالسحايا. فكرت اسرة نور بتقديم شكوى ضد الطبيب والمستشفى لكن «الطبيب الذي عالجني أخيراً في المستشفى هو الذي نصح والدتي بعدم رفع شكوى لأن الشكوى ستنام في الأدراج». فكيف لنور ولغيرها من المرضى الذين تبين لهم عدم ثقة الأطباء ببعضهم وتشكيكهم في دور نقابتهم وفعالية لجنة التحقيقات فيها، ان تثق بالقطاع الطبي في لبنان؟
صحيح ان المعلومات التي قدمها الدكتور زغبي والتي عرضنا بعضها في هذا المقال قد تساهم بتوضيح بعض الجوانب المتعلقة بالأخطاء الطبية غير ان هناك حاجة لاستعادة الثقة بين المرضى وذويهم والأطباء من جهة وبين الأطباء أنفسهم من جهة ثانية. وقد يكون وضع ميثاق شرف اعلامي لتغطية الاخبار عن الأخطاء الطبية بدقة وأمانة ومن دون التعرض لقرينة البراءة بداية حل يساهم في تخفيف التعرض لسمعة الأطباء ويعيد جزءاً من ثقة الناس بالقطاع الطبي.