«لا تفكر أنّ ما رفضناه وأسقطناه قبل سنتين سنوافق عليه اليوم». هكذا ردّ رئيس جمعية التجار نقولا شمّاس على نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، بعدما أنهى هذا الأخير عرض خطّة توزيع الخسائر والتعافي على ممثلي هيئات أصحاب العمل (الهيئات الاقتصادية). العبارة الثقيلة لم تستدع رداً من الشامي، وخصوصاً أن شمّاس يمثّل تحالف قوى السلطة والمال التي هزمت الشامي يوم انتقل من موقعه التقني في صندوق النقد الدولي إلى هيئة الأسواق المالية، في مواجهة رئيس الهيئة الحاكم رياض سلامة. إذ إن سلامة وأعوانه، مثل شمّاس، هم أسقطوا خطّة حكومة حسان دياب، ويستعدون اليوم لإسقاط خطّة الشامي.كلام رئيس جمعية التجار جاء خلال عرض قدّمه في السرايا الحكومية، نهاية الأسبوع الماضي، لترويج خطّة توزيع الخسائر والتعافي التي ستُعرض على بعثة صندوق النقد الدولي. وكان أبرز الحاضرين في اللقاء رئيس غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان محمد شقير، الرئيس السابق لجمعية الصناعيين جاك صراف، رئيس المجلس الوطني للاقتصاديين اللبنانيين صلاح عسيران، إضافة إلى مصرفيين، أبرزهم: رئيس مجلس إدارة البنك اللبناني السويسري تنال الصباح وممثل بنك عوده خليل الدبس. وسبق هذا اللقاء، آخر صباحي حضره خبراء، أبرزهم: رئيس المركز الاستشاري للدراسات عبد الحليم فضل الله، رئيس قسم الأبحاث في بنك بيبلوس نسيب غبريل، روي بدارو، مايك عازار، سمير نصر، جو عيسى الخوري وممثل المستشار المالي للحكومة اللبنانية (شركة لازار) فرنسوا خياط، هنري شاوول وغيرهم.

100 ألف دولار

هو الحدّ الأقصى لشريحة الودائع التي يوافق صندوق النقد الدولي على حمايتها، علماً بأن هناك مشاورات لإقناعه بالموافقة على 150 ألفاً


محور اللقاءين كان خطّة توزيع الخسائر والتعافي. عرض الشامي الخطوط العامة لخطّته التي ينوي مناقشتها مع بعثة صندوق النقد الدولي بدءاً من يوم غد. وما عرضه لم يكن يختلف كثيراً عن النسخ السابقة من الخطة على صعيد توزيع الخسائر، باستثناء إشارته إلى أن الخسائر زادت الى 73 مليار دولار، وأنه جرت إعادة توزيعها بشكل يزيد قص الودائع (هيركات) ويقلّص الاعتماد على تحويل بعض الودائع إلى سندات دائمة، ويقلص كمية الأموال التي ستحوّل إلى ليرة. كما تضمّنت الخطة شطب رساميل المصارف بكاملها، وإجبارها على إعادة رسملة نفسها بأموال جديدة، ما أثار نقاشاً حول كمية الرساميل المطلوبة، وكيفية تغطية باقي الخسائر طالما أن الرساميل البالغة 17.5 مليار دولار لا تكفي لشطب خسائر بقيمة 73 مليار دولار. وذهب النقاش مباشرة نحو اقتراح الخطّة إنشاء صندوق سيادي يستحوذ على بعض مؤسّسات الدولة المدرّة للإيرادات لتغطية قسم من الخسائر. مايك عازار اقترح ألّا يكون هناك استحواذ كامل على الإيرادات التي تحتاج إليها الخزينة لتمويل الخسائر، بل أن يوضع سقف لهذه الإيرادات التي تكون ملك الخزينة، وكل ما يفوق هذا السقف تموّل فيه الخسائر. جو عيسى الخوري، رفض تمليك القطاع الخاص أراضي الدولة «حتى لا تذهب للأجانب». بدارو اقترح أن يكون هناك تمييز بين المودعين على أساس العمر ليتسنى للمودعين الأكبر سناً الحصول على بعض أموالهم.
في المجمل، تحوّل النقاش في الجلستين إلى تحميل المسؤوليات وتبادل الاتهامات، ولا سيما أن المصرفيين ركّزوا، في سياق تبرئة أنفسهم، على تحميل الدولة المسؤولية عن «سرقة» ودائع الناس. لكن تبيّن في الجلسة أن ما حصلت عليه الدولة من المصارف لا يزيد على 9 مليارات دولار، بينما بدّد مصرف لبنان نحو 30 مليار دولار على تثبيت سعر الصرف، ونحو 5 مليارات على كلفة دعم القروض، ودفع نحو 20 مليار دولار لتمويل فروقات الفوائد بين مردود توظيفاته وكلفة الودائع. فهو جذب الدولارات من المصارف بكلفة مرتفعة، ووظّف الأموال بكلفة أدنى، وتحمّل خسائر متواصلة على فترات طويلة زمنياً. أما ما حصلت عليه الخزينة من مصرف لبنان فلا يتعدى 15 مليار دولار أنفقت على الكهرباء، مقابل حصول مصرف لبنان على ما يوازيها بالليرة اللبنانية.

شمّاس للشامي: ما أسقطناه قبل سنتين سنسقطه مجدداً


ولم يطغ على النقاش الهادئ سوى صوت شماس، مهدداً نائب رئيس الحكومة: «لا تفكر أن ما رفضناه وأسقطناه قبل سنتين، سنوافق عليه اليوم». هذه العبارة كانت استعادة لكلام أطلقه سابقاً حين قال إن الهيئات «تطاع ولا تطيع». وهو كلام سيكون على المحك في الأيام المقبلة، مع مجيء بعثة صندوق النقد إلى لبنان بمهمة عنوانها «استمرار المناقشات حول برنامج محتمل». يقول أحد المقرّبين من الرئيس نجيب ميقاتي إن الهدف ليس توقيع اتفاق، بل التوصل إلى اتفاق حول «مسودة الاتفاق» قبل الانتخابات. فبموجب هذه المسودة، ستكون لدى ميقاتي فرصة لحجز أفضلية الفوز بمقعد رئاسة الحكومة المقبلة بعد الانتخابات النيابية باعتبار أنه الشخص المناسب لتوقيع الاتفاق وتطبيقه. بمعنى آخر، يصعب أن يكون هناك اتفاق حالياً، لأن الاتفاق لا ينتهي بمجرّد الاتفاق على المسودة، بل ينتقل إلى المرحلة التالية، أي ما يعرف بـ«staff-level agreement». هنا يصبح الأمر شأناً شبه داخلي في صندوق النقد ويتطلب الأمر أسابيع لتحضير الاتفاق وتفنيد كل بنوده وتوزيع الدفعات وسواها، قبل أن ينتقل إلى مرحلة أخرى، وصولاً إلى موافقة المجلس التنفيذي والتوقيع النهائي. وبما أن مهمّة صندوق النقد الدولي تنتهي بعد 10 أيام، وبما أن المدة الباقية للانتخابات النيابية في 15 أيار المقبل هي سبعة أسابيع، فإن احتمال توقيع الاتفاق ضعيف جداً مع حكومة راحلة ومجلس نواب راحل.



المصارف تلتزم «مبدأ حرية التحويل»؟
كان لافتاً البيان الأخير الصادر عن جمعية المصارف الموجّه إلى النائب العام التمييزي لمطالبته بكف يدّ النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان غادة عون، إذ أشار البيان إلى أنّ تدابير عون «تمسّ صميم العمل المصرفي وتغيّر مبدأ حرية تحويل الأموال وحرية التجارة الذي يعتمده لبنان منذ تأسيسه، وهو تدبير يدخل حصراً في صلاحية السلطة التشريعية، كما أن التدبير يسهم في زيادة تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية...». وقّع البيان المحامي أكرم عازوري ووزّعته جمعية المصارف على الإعلام. لكن الغريب في البيان أنه يتحدّث عن «مبدأ حرية تحويل الأموال»، مشيراً إلى «أننا في اقتصاد حرّ وأن هذه الحرية يكفلها الدستور»، فهل احترمت المصارف «مبدأ حرية تحويل الأموال؟» الإجابة تأتي في القرار القضائي الصادر عن المحكمة العليا في بريطانيا ــــ فرع كوينز بنش، برئاسة القاضي جاستيس بيكن في الدعوى المرفوعة من فاتش مانوكيان بوجه بنك عوده وسوسيتيه جنرال بنك. يقول ممثلو المصرفين أمام القاضي إنهما أوقفا التحويل إلى الخارج ابتداءً من أول تشرين الثاني 2019. كذلك يرد في أوراق الحكم أنه في 11 تشرين الثاني 2019، طلب حاكم مصرف لبنان من المصارف أن تحصر تحويلات الأموال إلى الخارج بالحاجات الشخصية الضرورية... علماً بأن المصارف بدأت تعرقل سداد الودائع قبل ذلك بأشهر تحت مسميات عديدة!


هل يختبر لبنان قساوة «الكابيتال كونترول»؟
تمارس الطبقة السياسية في لبنان شعبوية فائقة. فمنهم من يعتقد بأن هناك نسخة من قوانين «الكابيتال كونترول» التي لا تحمي المصارف، أي أنها عندما تمنع التحويل لا تشرّع المنع نفسه الذي تستفيد منه المصارف في معاركها ضدّ المودعين. وهناك من يظنّ أن قوانين الكابيتال كونترول قوانين عادية، بمعنى أنها ليست زجرية واستثنائية مصممة لإرغام الجميع على احترام وتطبيق قيود وضوابط قاسية لمنع تسرّب الأموال بالعملات الأجنبية إلى الخارج. لكن ليس بعيداً من هنا، لنأخذ المثال المصري الطازج؛ الاثنين الماضي اجتمعت لجنة السياسات النقدية في المصرف المركزي المصري، وقرّرت أن تقيّد الاستيراد والتصدير عبر تعديلات تشمل قواعد الاستيراد والتصدير. فمهما يكن اسمه، هو كابيتال كونترول، وهو أمر مختلف عن «الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات». ففي مصر، قرّر المصرف المركزي أن يمنع الاستيراد إلا بإذن للبنود الآتية: السيارات كاملة الصنع، الموبيلات وكمالياتها، الخضروات وبذور ودرانات غذائية، الفواكه الطازجة، اللؤلؤ والمجوهرات، تلفزيونات وأجهزة كهربائية، لعب الأطفال، الملابس الجاهزة، المعدات الثقيلة، الإطارات المستعملة... كل ما هو مستعمل، وكل المفروشات. ومنع المصرف المركزي، المصارف، عن فتح الاعتمادات أو قبول مستندات استيراد هذه السلع، أو حتى تسجيل عقارات مبيعة لأجانب إلا بعد الرجوع إلى البنك المركزي.