نُشر في شباط عام 2021، شريط فيديو صوّرته سلطات مكافحة التجسس الروسية للقاء جمع فلاديمير أشوركوف (وهو مساعد وشريك المعارض الروسي اليميني المتطرف اليكسي نافالني والمدير التنفيذي لمنظمته «اف بي كي» التي تدّعي العمل على مكافحة الفساد في روسيا) والدبلوماسي في السفارة البريطانية في موسكو جيمس ويليام توماس فورد (تؤكّد السلطات الروسية أنه يعمل للمخابرات البريطانية). ظهر أشوركوف في الشريط وهو يقول: ««القليل من المال. إذا أنفق أحدهم، لا أعلم، 10 أو 20 مليوناً سنوياً لدعم هذا، سنرى صورة مختلفة، وهذا ليس مبلغاً كبيراً لأشخاص لديهم مصالح بالمليارات... هذه هي الرسالة التي أحاول بثّها في جهود جمع الدعم ومن خلال الحديث مع الناس في مجتمع الأعمال... نحن بحاجة إلى اللعب على رقعات شطرنج مختلفة، تظاهرات عارمة، مبادرات أهلية، بروباغاندا وتأسيس علاقات مع النخبة، لنشرح لهم بأننا أناس عقلانيون، ولن نقوم بهدم كل شيء ومصادرة أملاكهم... نحن لا نملك أدلّة صلبة حول فساد السلطات، ولكنني على يقين بأن هناك قضايا فساد جدية يمكن إثباتها عن طريق المصادر البريطانية»، فردّ عليه فورد قائلاً: «نحن ندعم الكثير من المنظمات كما تفعل الكثير من السفارات». في الحوار ذاته، يشرح أشوركوف كيف تعمل منظمته على استهداف المصارف المنافسة للمصارف البريطانية في روسيا، وكيف تنسّق حملاتها مع هذه البنوك. وبحسب السلطات الروسية، قام فورد بتوجيه أشوركوف للعمل مع منظمة «الشفافية الدولية» (Transparency International) لتعذّر إمكانية الدعم المباشر وحساسيته.
(هيثم الموسوي)

تعرّف «الشفافية الدولية» عن نفسها بأنها حركة عالمية تعمل في أكثر من مئة دولة لإنهاء مظالم الفساد. أسّس المنظمة عام 1993 المسؤول السابق في البنك الدولي الألماني بيتر إيغن. اللافت أن الشفافية لم تشمل أسماء عدد من المؤسّسين الذين أغفل الموقع الإلكتروني للمنظمة ذكرهم. ويبرز من هؤلاء الأميركي مايكل هيرشمان، وهو ضابط سابق في المخابرات العسكرية في الجيش الأميركي ورئيس مجموعة «فيرفاكس» التي حوّلت الشفافية إلى عمل مربح عابر للبحار. وكذلك السير جورج مودي ستيوارت الذي يعمل جاهداً في بناء مدارس في دول العالم الثالث لتغطية تاريخ عائلته الدموي في صناعة وتجارة السكر والعبودية في الكاريبي.
تُموّل «الشفافية العالمية» (مقرها برلين)، بشكل رئيسي، من حكومات غربية على رأسها بريطانيا والاتحاد الأوروبي. خريطة الانتشار العالمي للمنظمة على موقعها تشمل الولايات المتحدة، قبل أن يتبيّن أن الشفافية لا تشمل الخريطة أيضاً، لأنه لا يوجد حالياً فرع لـ«الشفافية العالمية» على الأراضي الأميركية بعد سحب الاعتراف به عام 2017. وحتى اليوم لا شفافية حول السبب الحقيقي لنزع الاعتراف عن الفرع الأميركي الذي كان معنياً بملاحقة فساد دول العالم الثالث أكثر من ملاحقته داخل أميركا. فهل كان ذلك لأن الفرع الأميركي يضم مؤسّسي شركات محاماة لوبيات الغذاء والسلاح والدواء مثل فايزر ولوكهيد مارتن، أم لأنه كرّم شركة «فلاور» للخدمات اللوجستية المدانة في قضايا احتيال على الحكومة الأميركية في مشاريع عسكرية وأمنية في دول كالعراق وأفغانستان، أم لأنه كرّم المرشحة الرئاسية السابقة هيلاري كلينتون بجائزة النزاهة عام 2015؟ علماً أن فضائح واستقالات كثيرة أحاطت بعمل الفرع الأميركي، إضافة إلى تصريحات مسؤولين سابقين فيه حول بيئة عمله «السامّة».
بين عامَي 2016 و2018، تراجعت المنظمة من المركز التاسع إلى المركز الـ 20 في ترتيب Global Go To Think Tank Index Report للمنظمات الأكثر تأثيراً في العالم. رغم ذلك، هناك دور مركزي لـ«الشفافية العالمية» يحول دون سقوطها المدوّي، إذ إنها تعمل ضمن شبكة فعّالة من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية التي تضغط على الدول المستهدفة غربياً من خلال قضايا الفساد. والأخطر من ذلك هو فبركتها قضايا الفساد لإسقاط حكومات، كما حصل في البرازيل في ما عُرف لاحقاً بـ«operation carwash»، حين سُرّبت تسجيلات صوتية لرئيس المنظمة في البرازيل يتحدث فيها كيف خطّط للزجّ باسم الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا في قضية فساد لا علاقة له بها لسجنه عندما كان المرشح الأقوى للانتخابات الرئاسية، ما أفسح المجال لفوز الرئيس الحالي جايير بولسونارو. وقد كان لافتاً تعليق «الشفافية» الدولية على التسريبات، إذ إنها لم تنكر خرق القانون، ولم تتطرق إلى فبركة الأدلة ضد لولا، إلا أنها أكّدت أهمية فضح الفساد وأعطت درساً أخلاقياً في احترام الخصوصيات.
«تركّب» المنظمة مؤشراً للفساد العالمي بلا أسس علمية


والمنظمة التي تصرّ على حماية من يُسمون بالـ «Whistle blowers» (الذين يبلغون عن تجاوزات حكوماتهم أو شركاتهم) تتنكّر للدفاع عن إدوارد سنودن وجوليان أسانج. كما أن نفاقها يطاول جوانب عدة من عملها مثل «مؤشر مدركات الفساد»، وهو التصنيف السنوي لـ 180 دولة بحسب تفشّي الفساد، يتضمّن كثيراً من الإشكاليات المنهجية. فعلى سبيل المثال، ورغم كثرة الوثائق، لا تتوفر لدى أي من المؤسسات الـ 13 المشاركة في التصنيف أي معلومات نوعية أو كمية تبرّر تقييم الدول ضمن المؤشر، إذ إن أغلبها يطرح أسئلة انطباعية على اختصاصيّين مجهولين لا يعرف أحد معايير اختيارهم، كما أن غالبية هذه المؤسسات مرتبطة بالبنك الدولي الذي يشارك بدوره في هذا التصنيف. هكذا يخرج التصنيف بالإشادة بملاذات ضريبية وبدول «غير فاسدة» تنظم نهب الدول المفقرة، كما هي حال بريطانيا التي غالباً ما تظهر أسماء مصارفها في كل فضائح التهرب الضريبي وغسل أموال المافيات وعصابات المخدّرات في العالم.
لا يقتصر تضليل «الشفافية العالمية» على «مؤشر مدركات الفساد». بل إن الحقائق الكمية للفساد التي تطلقها المنظمة هي «بلا أساس» كما أظهرت ورقة بحثية لمركز U4 anti-corruption resource centre حول «الحقائق» التي تتداولها «الشفافية الدولية» وأخواتها.
في المنطقة العربية، يقتصر وجود «الشفافية الدولية» على لبنان وتونس والأردن والمغرب. في لبنان، تنشط المنظمة بالشراكة مع منظمات كـ«نحن» و«المبادرة اللبنانية للنفط والغاز» و«كلنا إرادة»، وفي الحوكمة والدفاع والغاز والنفط والصحة والطاقة وغيرها من القطاعات التي تهم المجتمع الدولي. وفيما لا تظهر أي تحقيقات خاصة بالفساد في لبنان، يتركّز نشاط المنظمة على تغيير القوانين ووضع توصيات حول المستقبل التشريعي لمختلف القطاعات الحساسة. ورغم أنها لا توصي بمنع المساعدات عبر الدولة، إلا أنها توصي المنظمات الدولية بإجراء دراسات اقتصادية واجتماعية لتقييم أثر المشاريع التي تموّلها، وتوصي بتمكين المنظمات غير الحكومية لتكون «كلب الحراسة» الذي يضمن حسن استغلال المساعدات الأجنبية.