لا شك في أن السينما – قبل أي شيء آخر – أداة عظيمة لإيصال الأفكار. السينما وسيلة قوية تشكل الأفكار والمواقف والأعراف الاجتماعية، لديها قدرة أكبر على التأثير على الرأي العام ونشر الأفكار مقارنة بوسائط أخرى. الأفلام تعطي تجربة ذات تأثير واقعي وعاطفي هائل، يمكنها أن تقنعنا بسهولة فريدة. تعتمد السينما على جمهورها وكيفية استجابته للموضوعات والأفكار التي يتم تقديمها على الشاشة. مع المهارات السينمائية والتقنيات الصحيحة، تصبح السينما وسيطاً قوياً، يمكن أن يستعملها السياسيون، يمكن أن تلهم الشعوب وتؤثر على التغيير والانتخابات
السينما ساحة قتال
للسينما، بوصفها أهم ناقل ثقافي للقرن الحادي والعشرين، سمة تعكس التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية المساهمة في إعادة بناء الواقع. تبيَّن منذ نشأة السينما أن لها القدرة على التأثير في المجتمع وتوجيهه، وغالباً ما تُستخدَم أداة دعاية من الأحزاب في السلطة في بلدان كثيرة. السينما مثل ساحة قتال، تُستخدم مكاناً تتواجد فيه الظروف الاجتماعية والسياسية. السينما وسيلة لا غنى عنها في ما يتعلق بالخطاب الأيديولوجي. تمهد الأفلام الأرضية لبناء واقع اجتماعي وهي جزء من التمثيل الثقافي للنظام القائم وتحمي شرعيته.
عندما يتم تقييد حرية القرار، لا يمكننا التحدث عن عملية انتخابية ديمقراطية شرعية


نتيجة العمليات السياسية والأزمات في البلدان، تزعزعت الثقة بين الشعب والسياسيين. لذلك يلجأ السياسيون والأنظمة إلى السينما. أصبحت القصص الدرامية والأحداث السياسية والقضايا التي تؤثر على الانتخابات رائجة قبل وبعد موسم الانتخابات. غالباً ما تتشابك السينما والسياسة في العالم، يتحول الممثلون إلى سياسيون (ڤولودومير زيلينسكي، رئيس أوكرانيا). على الرغم من أن تأثير الأفلام الروائية والوثائقية لا يمكن أن يُعرف إلا بعد الانتخابات، إلا أنها ما تزال وسيلة قوية للمرشحين والناخبين على حد سواء، حتى أنها كانت وسيلة لفضح سياسيين وعمليات احتيال انتخابية. لذلك على الرغم من أن القوانين في دول العالم تمنع نشر الإعلانات السياسية على وسائل التواصل الاجتماعي أو في أي وسيلة إعلامية أخرى قبل 48 ساعة من عملية الاقتراع، لا يوجد قانون خاص يمنع عرض الأفلام الروائية الوثائقية.
في هذا المقال، سنجول على بعض الأفلام الوثائقية التي سلطت الضوء على الانتخابات وأهميتها كأداة للتغيير، وعلى أهمية التصويت، وأيضاً بوصفها وسيلة لفضح الغش الانتخابي وكشف الألاعيب التي يستخدمها المرشحون للنجاح.

{The Great Hack} – Netflix


نعيش في عالم نُراقَب فيه كل ساعة ودقيقة وثانية. كل شيء ننشره ونعرضه على وسائل التواصل الاجتماعي يُراقَب لتشكيل سلوكنا. علاوة على ذلك، توضَع استراتيجيات بناءً على المعلومات الشخصية التي نقدمها نحن بأنفسنا. قد يكون هذا حبكة فيلم خيال علمي، ولكنه هو الواقع الذي نعيشه. في "The Great Hack" الوثائقي الذي يعرض على منصة نتفلكس، تتبع فيه صانعا الأفلام كريم عامر وجيهان نجيم الرحلة الطويلة لفضيحة كامبريدج أناليتيكا (شركة خاصة تعمل على جمع واستخراج البيانات وتحليلها ثم الوصول لاستنتاجات عند العمليات الانتخابية)، يظهر الوثائقي صعود وسقوط الشركة والجدل والغضب الذي أثير بسبب انتهاك خصوصية ملايين من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي. لا يُظهر فقط كيف تمكنت الشركة من استخدام البيانات لأغراض مشبوهة. بل أكثر من ذلك، كيف تمكنت شركة الاستشارات البريطانية من التدخل واستخدام معلومات أكثر منن 50 مليون ناخب أميركي خلال الترشيحات الرئاسية لسباق الرئاسة الأميركية عام 2016. ويكشف كيف أن الملفات الشخصية التي أُنشئت والمعلومات التي جُمعت، كانت لها تأثيرات حاسمة في حقيقة أن دونالد ترامب أصبح مرشحاً للرئاسة وأيضاً انتصار المستقلين في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ازدادت هذه الفضيحة سوءً عندما ربح ترامب الانتخابات، وأيضاً عند انتصار «نعم» لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. حدثان لهما طابع جوهري على الساحة السياسية الدولية. كشف الوثائقي أن ملايين الأشخاص تعرضوا لمحتوى متحيز خلال الحملات الانتخابية وأيضاً خلال عملية الاستفتاء، محتوى يغذي الخوف وكره الآخر، ما يلغي العقل ويعطي العاطفة القوى الأكبر. عندما تُقيَّد حرية القرار، لا يمكننا التحدث عن عملية انتخابية ديمقراطية شرعية. أعطي الناخبون محتوى خاطئاً ومستهدفاً يتبع استراتيجية شخصية تعتمد على البيانات التي جُمعت، واستفيد منها عبر التركيز خلال الحملات الانتخابية والاستفتاء على مخاوفهم ونقاط ضعفهم لفرض طريقة تفكير عليهم. الفيلم صورة قاسية لعلاقتنا بالعالم الافتراضي، وكيف يمكن التلاعب بالمستخدمين وعزلهم واستخدامهم في الانتخابات في عصر تكون فيه المعلومات هي كل شيء.

Servant of The People


استيقظ الأوكرانيون عام 2019 على خبر أنهم انتخبوا ممثلاً تلفزيونياً، ليكون الرئيس الحقيقي للبلاد. تجربة الرئيس ڤولودومير زيلينسكي السياسية قبل الانتخابات تتمثل في لعب دور مدرس يصبح رئيساً في مسلسل تلفزيوني ساخر. ما حصل في المسلسل ترجم في الحقيقة، زيلينسكي ترشح من دون انتماء حزبي، ولم يكن لديه فريق واضح من المستشارين الخبراء في السياسة والأمن القومي. حملته الانتخابية التي استمرت أربعة أشهر لم تقدم إجابات حول من هو زيلينسكي. كل ما عرفه الناخبون أنه ممثل أصبح رئيساً، فما الذي يمنع الخيال من أن يصبح حقيقة؟
حملة زيلينسكي الرئاسية كانت افتراضية تماماً، تجنب المقابلات والنقاشات الجادة حول السياسة، لم يخطب ولم يعقد مؤتمرات صحفية، مفضلاً بدلاً من ذلك نشر مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، فكانت حملته بمثابة تلفزيون الواقع (Reality TV). قبل ترشحه كان زيلينسكي حاضراً في كل مكان على شبكة التلفزيون الأكثر شعبية في أوكرانيا، حيث شغل ساعات من البرامج الأسبوعية بعروضه المتنوعة ومسابقات المواهب الكوميدية ومسلسل «خادم الشعب»، "Servant of The People". تعامل زيلينسكي مع السياسة كما يتعامل النجم التلفزيوني مع معجبيه، ولكن ما حصل يؤكد قوة الصورة والشاشة على الرأي العام، وكيف يمكنها أن تقنعك بالمستحيل كما أقنعت الشعب الاوكراني أن المدرّس الذي أصبح رئيساً للجمهورية كان الخلاص لشخصيات المسلسل هو نفسه الخلاص للواقع والبلد الفعلي.

{Agents of Chaos} - HBO


نشرت لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ الأميركي عام 2020 أكثر من ألف صفحة عن النتائج المتعلقة بالتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2016. والفيلم الوثائقي الاستقصائي "Agents of Chaos" يؤكد هذا التدخل، ويذهب أكثر في إدانة تقرير مجلس الشيوخ ويبرز الاتصالات المكثفة بين رجال في حملة دونالد ترامب وكادر من الأفراد ممن يعملون ظاهرياً خارج الحكومة الروسية ولكنهم ينفذون عمليات التأثير التي يوجهها الكرملين. ينقسم الفيلم الذي يبلغ مدته أربع ساعات إلى حلقتين، يركز الجزء الأول على عمليات القرصنة الذي قام بها جهازا استخبارات روسيان وهما GRU و SVR لتقليل ثقة الناخبين بالمؤسسات، سواء من خلال التلاعب بشبكات التواصل الاجتماعي أو اختراق أنظمة التصويت أو تسريب رسائل إلكترونية للديمقراطيين لا سيما للمرشحة هيلاري كلينتون. ويركز الجزء الثاني على مزاعم التواطؤ بين حملة دونالد ترامب والحكومة الروسية، ويعطي لمحة عامة عن مختلف التسريبات والفضائح التي هزت المجلس الوطني الديمقراطي والقرارات المشكوك فيها التي اتخذتها الحكومة لمنع المزيد من التدخل.
أجرى مخرج الفيلم أليكس غيبني عشرات المقابلات مع خبراء وصحفيين ومسؤولين حكوميين ولمبلغين عن المخالفات ومحليين وأساتذة جامعيين لإرشادنا خلال الفوضى التي حصلت، كما أنه أجرى مقابلات مع المدير السابق لمجلس الأمن القومي الروسي ليقدم نظرة واقعية على ما حصل عام 2016 وكيف أن الاضطرابات السياسية في أوكرانيا يومها كانت مقدمة لما يحدث اليوم وكيف أن الحكومة الأميركية لم تكن قادرة أو راغبة باتخاذ أي إجراء حاسم لما جرى.
نعيش في واقع أصبحت فيه الحقائق بلا معنى، ما يترك المرء يتساءل أن ما جرى هو الجزء الأول من الفوضى التي نعيشها اليوم في العالم. يسأل الوثائقي كيف أصبحت الولايات المتحدة بهذه المرونة ويجيب بما قاله ونستون تشرشل خلال مقابلة في الحرب العالمية الثانية «روسيا لغز ملفوف في لغز داخل لغز». الفيلم أحد أفلام كثيرة تحاول شرح ألغاز السياسة الجديدة وقوة العالم الرقمي في التأثير على الانتخابات، وأن الأسلحة الجديدة التي تُستخدَم اليوم في الانتخابات ليست فقط إلكترونية بل نفسية أيضاً، وأن الانتخابات مع السنوات القادمة ستكشف استخدام أسلحة كثيرة لا يمكننا تخيلها.

{Freedom on My Mind}


عام 1961، كانت ولاية ميسيسيبي الأميركية محكومة بنظام فصل عنصري صارم. لم يكن هناك تقريباً ناخبون سود على الرغم من أن الأميركيين من أصل افريقي يشكلون النسبة الكبيرة من السكان. بدأ المعلم والناشط الأميركي بوب موسيس الذي اشتهر بعمله قائداً للجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية بحملة لتوعية الناخبين، وحث الناخبين السود على التسجيل للانتخابات. بدأ بمشروع تسجيل الناخبين السود في الولاية، وهو مشروع أدى لمقتل أول مزارع أسود حاول التسجيل، ثم بعد ذلك قتل ثلاثة من العاملين في مجال الحقوق المدنية. "Freedom on My Mind" يصور المعركة التي خاضها الطلاب الأفرو-أمريكيون من إجل حقهم في التصويت. من خلال مقابلات وأفلام أرشيفية نادرة ولقطات من التلفزيون وأغاني البلوز يروي الفيلم كيف نجحت الحملة في إنشاء الحزب الديمقراطي لحرية ميسيسيبي، ودفعوا العالم للحصول على حقوقهم في الترشح للانتخابات والتصويت بعد أن كانوا ممنوعين من المشاركة في السياسة. في المؤتمر الوطني الديمقراطي لعام 1964 شكل الطلاب ومنظمو الحزب وفداً من المزارعين والخادمات والعمال المياومين وتحدوا المندوبين البيض بالكامل في المؤتمر. وفي النهاية نجحت جهودهم، ففي عام 1965 أقر الكونغرس قانون حق التصويت، وبحلول عام 1990 كان لولاية مسيسيبي عدد من المسؤولين السود أكثر من أي ولاية أخرى في البلاد. بعيداً من القرار الذي غير المشهد السياسي العام في البلاد فإن الوثائقي يثبت بـأن إذا كان يُنظر إلى التعليم على أنه وسيلة لاكتساب الوعي السياسي، فقد كان يُنظر إلى التصويت على أنه الوسيلة الوحيدة لكسر النظام الصارم.