توالت في السنوات الأخيرة منشورات ومقالات وتقارير تشرح بالتفصيل الأبارتايد الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني. كان آخر التقارير التي صدرت في هذا الإطار تقرير منظمة العفو الدولية، وسبقها تقارير منظمات أخرى كمنظّمة «هيومن رايتس ووتش»، وقبلها بسنوات تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا). رحّب الكثير من الخبراء والقانونيين، بخاصّة العاملين في مجال حقوق الإنسان، بالتقرير وأكّدوا على توصيفه للوضع القائم في فلسطين المحتلة. لكن لا ينبغي الخلط بين المقاربة القانونية لقضية الأبارتايد وبين الاستخدام السائد للمصطلح تعبيراً عن الإدانة والاستنكار. قد تبرر ظروف وسياقات معينة التعامل مع مسألة الأبارتايد على أنها أعمال وممارسات منفصلة (مثل جدار الفصل العنصري)، أو ظاهرة تولدها ظروف بنيوية مُغفلة كالرأسمالية (أبارتايد اقتصادي)، أو سلوك اجتماعي خاص من جانب بعض الجماعات العرقية تجاه جماعات عرقية أخرى (عنصرية اجتماعية). غير أن هذا التقرير يتمسك بتعريف للأبارتايد كما يرد في القانون الدولي، والذي يُحمّل قي طياته مسؤوليات على الدول، كما تنص عليها الصكوك الدولية.
تعتمد استراتيجية الأبارتايد «الإسرائيلي» على تفتيت الشعب الفلسطيني كوسيلة رئيسية لضمان هيمنة «الإسرائيليين» اليهود على كامل الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين. فاستخدم نظام العدو «الإسرائيلي» شتى الوسائل المتاحة والمفتعلة لتقسيم الشعب الفلسطيني إلى مناطق جغرافية مختلفة تدار بمجموعات مختلفة من القوانين. وتعمل هذه التجزئة على تثبيت نظام الهيمنة العنصرية «الإسرائيلي» وإضعاف إرادة الشعب الفلسطيني وقدرته على مقاومة موحدة وفعّالة.
وبما أن استراتيجية التفتيت هي الوسيلة الأساسية التي يفرض بها النظام الإسرائيلي الأبارتايد، فهي في الوقت نفسه سهلة الحجب عن المجتمع الدولي من خلال تفتيت الاهتمام بالشعب الفلسطيني. إذ يتناول العالم قضية الأراضي المحتلة عام 1967 بمعزل عن قضايا فلسطينيّي أرض 1948، وبانفصال تام عن قضايا ومعاناة اللاجئين في المخيمات خارج فلسطين.
على أيّ حال، قد يعتبر البعض أنّ ما جاء في التقارير التي تتهم نظام العدو «الإسرائيلي» بالأبارتايد غير كافٍ عدا عن كونه متأخراً، بل ويغذّي شرعية وبقاء الاحتلال، إذ تخاطب التقارير في توصياتها المحتل «الإسرائيلي» بوصفه مسؤولاً لا عن الأفعال فقط، بل عن تصحيحها، وبالتالي تمنح التقارير «إسرائيل» مسؤولية تضاف إلى مسؤولياتها التي تحكم قيدها على الفلسطيني في كافّة أماكن تواجده (منظمة العفو الدولية 2022). من نتائج توصيات كهذه إعادة إنتاج وشرعنة النظام «الإسرائيلي» كنظام مهيمن، وبتوصيات تكاد تكون غير عملية وغير قابلة للتنفيذ أحياناً، كأن تقبل «إسرائيل» بمنح حق العودة أو دفع تعويضات للضحايا. ويعود السؤال الأكثر جذرية: هل بحدوث وتفكيك نظام الفصل العنصري سينتهي الاحتلال؟
من المؤسف أن التقارير لم تتعرض للنظام «الإسرائيلي» بصفته قوة استعمارية إحلالية في المنطقة، بل رفضت النظر في مسألة شرعية الاحتلال. من الفرص التي يمكن أن ندركها من خلال أهميّة هذه التقارير هو الصدى الإعلامي السياسي لمثل هذه التقارير في العالم اليوم، فقد أصبح بالإمكان استخدام خطاب حقوق الإنسان لذم وإعابة أشخاص وأنظمة، بل ودول. وعلى الرغم من السلبيات الكثيرة المصاحبة لصناعة حقوق الإنسان، فإن استخدام الخطاب نفسه لغرض تسليط الضوء على الانتهاكات التي تمس حقوق الإنسان الفلسطيني أمر إيجابي، بل ويدفع الأنظمة والحكومات للضغط سياسياً على العدو الاسرائيلي من أجل التراجع عن ممارساته. وعلى الرغم من انتقائية بعض المؤسسات الحقوقية للحقوق التي يجب تغطيتها إلا أنّ التغطية تدفع الشعوب والباحثين عن الحقيقة للبحث والغوص في أعماق القضية بشكل أكبر.
تعتمد استراتيجية الأبارتايد «الإسرائيلي» على تفتيت الشعب الفلسطيني كوسيلة رئيسية لضمان هيمنته


أمّا على صعيد الأمم المتحدة، فتدفع هذه التقارير أجهزة الأمم المتحدة، بخاصّة مجلس حقوق الإنسان إلى تبنّي موقف تجاه القضية، وبالتالي تشكيل ضغط دبلوماسي أكبر قد يؤدي إلى تعزيز حركات مقاطعة الاحتلال حتى ولو على صعيد مقاطعة بضائع المستوطنات «الإسرائيلية» على أراضي الضفة الغربية. وقد يصل الأمر إلى تبني قرارات أممية خاصة تطرح من مجلس الأمن أو الجمعية العمومية للأمم المتحدة، قد تشكل ضغطاً وتؤدي إلى نتائج ملموسة. فمثلاً، وخلال فترة العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، دعت إيرلندا، بوصفها رئيسة لمجلس الأمن، إلى عقد اجتماعات طارئة تدعو فيها الكيان إلى وقف الاعتداء، كما أدّى العمل الحقوقي إلى الدفع بإيرلندا نحو اتخاذ قرارات محلية تخص مقاطعة بضائع المستوطنات.
وكذلك، كان مكتب المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية قد أصدر قراراً في أوائل عام 2021 بفتح التحقيقات في جرائم الحرب في الأراضي الفلسطينية (الضفة وغزة والقدس الشرقية حصراً من دون فتح اي تحقيق في الجرائم في سائر أنحاء فلسطين المحتلة).
يمكن الاستفادة من هذه التقارير لتدعيم الملف الفلسطيني، بحيث تكون هذه التقارير رصيداً من المواد المستخدمة في التحقيقات بما أنها مصدر من مصادر المعلومات التي تعتمدها أجهزة الأمم المتحدة.
بالنظر إلى ذلك كله، يبقى التساؤل الأهم: ما المطلوب على صعيد دعم القضية في هذا الشأن؟

تقرير منظمة العفو الدولية لم يتعرض للنظام «الإسرائيلي» بصفته قوة استعمارية إحلالية في المنطقة، بل غضّ النظر عن مسألة شرعية الاحتلال


للحديث عن خطوات عملية، يمكن:
- التركيز على أهم النقاط التي تستعرضها التقارير للحديث عن الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون.
- تركيز جهود فردية وجماعية للنشر حول الموضوع والحديث عن وجهات نظر قد تفتح آفاق عمل مختلفة.
- استغلال ملف فلسطين المعروض أمام المحكمة الجنائية من خلال دفع التحقيقات كي تعتمد النظر بما جاء في هذه التقارير.
- إمكانية استغلال آلية الشكاوى الفردية التي تسمح بها لجان معاهدات حقوق الإنسان، وبالتالي تكثيف أصوات الفلسطينيين في حي الشيخ جراح بشكاوى فردية وتقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تثبت تورط العدو الاسرائيلي بالأبارتايد.
- استغلال التقارير للدفع بحملات المقاطعة.
- استغلال التقرير للدفع بحراكات تضامن شعبي على صعيد دول العالم.
ويبقى الخيار الأساسي لتحرير فلسطين خيار الكفاح المسلح.

* في العدد المقبل: «تقرير منظمات حقوق الإنسان وفلسطين بين الوهم والعدم»



توصيف لا يعني تماثل الممارسات

الإحتلال الإسرائيلي يعتدي على شاب مصاب بمتلازمة داون في حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة (ميدل إيست آي)

الأبارتايد كلمة أفريكانية (Afrikaan) وهي اللغة التي تفرعت من الهولندية لدى المستعمرين الأوروبيين الذين بقوا في جنوب أفريقيا وغيرها جنوب القارة الإفريقية منذ القرن السابع عشر. وتعني حرفياً «الفصل» أو «الانفراد» (apart-hood)، واستخدمت لوصف النظام السياسي والإداري لفصل وعزل المجموعات العرقية في جنوب إفريقيا الذي استمر بين عامي 1948 و1994، تحت شعار «النمو المنفصل». وهو نظام سعى إلى الإبقاء على هيمنة وسيطرة السكان البيض المتحدرين من المستعمرين الأوروبيين على السلطة والثروة ومقدرات البلاد بعد انتهاء عصر الاستعمار المباشر.
تعرّف المادة 2 من الاتفاقية الدولية بشأن قمع جريمة الفصل العنصري ومعاقبة مرتكبيها (1973) الأبارتايد بأنها جريمة تشمل «سياسات وممارسات العزل والتمييز العنصريين المشابهة لتلك التي تمارس في الجنوب الأفريقي، تنطبق على الأفعال اللاإنسانية...، المرتكبة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عرقية ما من البشر على أية فئة عرقية أخرى واضطهادها إياها بصورة منتظمة.» ويعرّف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الأبارتايد بما يلي: «أية أفعال لا إنسانية... تُرتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وتُرتكب بنيّة الإبقاء على ذلك النظام».
ثمة ملاحظة لغوية قد تكون هامشية: في حين أضافت معظم اللغات مصطلح {أبارتايد} إلى مفرداتها بلا تغيير أو ترجمة، اعتُمد مصطلح «الفصل العنصري» في اللغة العربية للإشارة إلى نظام جنوب إفريقيا وثم إلى الجريمة الدولية. وقد أدى ذلك إلى لغط، فالمصطلح نفسه ترجمة لمصطلح «racial segregation» التي تعتبر أيضاً ممارسة عنصرية منافية للقانون الدولي، لكنها لا تعني الأبارتايد بالضرورة، فضلاً عن ترسيخها للصور التي مثلت النظام في جنوب إفريقيا، وأفضت إلى مقارنة غير مجدية بين نظامي الأبارتايد «الإسرائيلي» والجنوب إفريقي. استخدام المصطلح من دون التنبه لاختلاف التشكّلات القائمة في كلا النموذجين الجنوب أفريقي و«الإسرائيلي» يُسهّل على «إسرائيل» أن تنقضه وتقضي بنفيه. إذا قارنّا بين النظامين نستطيع أن نجزم بوجود تشابهات تشمل النزعة الاستعمارية التي كانت لدى الأقلية البيضاء الحاكمة في جنوب أفريقيا والتي تشكّلت بفعل ودعم الاستعمار الهولندي ومن ثم البريطاني. إلا أن الإسرائيليين كانوا أكثر دهاءً من حلفائهم في جنوب إفريقيا، فكما قال جون دوغارد، وهو بروفيسور وخبير قانوني جنوب أفريقي عايش الأبارتايد وشغل منصب المقرر للخاص للأمم المتحدة حول حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، أنّه برغم وجود تشابهات معينة بين النظامين، إلّا أنّ الفارق الأساسي يتمحور حول وضوح نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بينما قام النظام «الإسرائيلي» بتجميل وتمويه ممارساته وسياساته، واستخدم طرقاً وأساليب أكثر مكراً تفضي إلى النتيجة ذاتها. وعليه فإن انطباق التوصيف نفسه على النظامين لا يعني بالضرورة تماثل الممارسات وبالتالي قد يكون ضرر المقارنة بين هذه الممارسات أكبر من فائدتها.


يعيش الفلسطينيون منذ عام 1967 في أربعة «فضاءات»، يُعاملون فيها معاملة مختلفة في الظاهر، لكنهم يتشاركون في الواقع اضطهاداً عنصرياً في ظل نظام الأبارتايد

الفلسطينيون في الأرض المحتلة عام 1948
يعيشون في ظل نظام قانوني يصون القمع والاضطهاد، ويجرّم أي مواجهة قانونية لهذا الاضطهاد ويجعل من الفلسطينيين مواطنين «من الدرجة الثانية». كما تهدف السياسات والممارسات «الإسرائيلية» إلى ضمان بقاء هذا الجزء من الشعب الفلسطيني أقلية ديموغرافية، ما يحول دون حصوله على الوزن الانتخابي المطلوب لتحدي القوانين التمييزية أو الطبيعة اليهودية الأساسية للدولة عبر القنوات التشريعية.

الفلسطينيون في القدس الشرقية
يصنفون مقيمين دائمين، لا مواطنين، ما يحول دون مساهمتهم في زيادة الثقل الديمغرافي للفلسطينيين داخل أراضي 1948. ويعاني فلسطينيو القدس الشرقية من التمييز، لا سيما في الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية، والحصول على تراخيص البناء، وفي خدمات عامة أخرى. وهم يعيشون تحت ضغط مستمر يرمي إلى دفعهم إلى مغادرة المدينة نهائياً، وفي خوف دائم من مصادرة تصاريح الإقامة.

الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة
مفصولون أيضاً عن الفلسطينيين في أراضي 1948 والقدس الشرقية. ويحكمهم القانون العسكري «الإسرائيلي»، بينما يعيش المستوطنون اليهود في ظل القانون المدني «الإسرائيلي» (ما يعتبر بحد ذاته انتهاكاً لاتفاقية جنيف الرابعة). سياسة تجزئة الضفة الغربية إلى كانتونات تفرقها مناطق يهودية حصراً (المستوطنات)، والحصار على قطاع غزة يضعفان الفلسطينيين ويُحكمان سيطرة «إسرائيل» عليهم في الأرض المحتلة.

اللاجئون والمنفيون الفلسطينيون
ممنوعون بشكل صريح من العودة إلى منازلهم سواءً في الأراضي المحتلة عام 1948 أم تلك المحتلة عام 1967، ولا يخجل «الإسرائيليون» بتبرير رفض السماح لهم بالعودة لأن تلك قد يؤدي إلى تغيير التوازن الديموغرافي داخل «إسرائيل».
ن. ي.