تتعرض حقوق السكّان الأساسيّة وكراماتهم الإنسانيّة للانتهاك اليوم. لا اهتمام جدياً من السُّلطة بكرامات الناس، ولا التزام جدياً باحترامها، بل شروع في الاجتزاء منها والاستغناء عنها أحياناً. أليس ذلك سبباً كافياً لانهيار وهلاك المجتمع؟ كل شيء بات مباحاً، من الطائفية والعنصرية، إلى النهب والاستغلال والاعتداء. وبين الانهيار الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي والفساد المستشري في إدارات الدولة وجائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت واحتجاجات الشارع وتداعيات أزمة النازحين، يجد السكان في لبنان صعوبة متزايدة في الوصول إلى الخدمات الأساسية وأهمها السلامة العامة والصحة والغذاء والسكن والتربية والعمل


الأمن الغذائي مهدد
هدد الانهيار الاقتصادي وانخفاض قيمة العملة وارتفاع الأسعار قدرة السكّان على تأمين الطعام ومياه الشرب، فهدد أمنهم الغذائي. حين لا يوجد أمن غذائي لا توجد كرامة إنسانية. ما عادت الإعالات والهبات والمساعدات تكفي لتأمين الحاجات الأساسية للسكان، فبدأت أسر كثيرة بتخفيض إنفاقها على الغذاء من ناحية الكمية والنوعية. خفّض الأفراد عدد وجباتهم من ثلاث وجبات إلى وجبتين يومياً، وأصبحوا يعتمدون على البقوليات والحبوب في وجباتهم لأنّ أسعار الدجاج واللحوم والسمك صارت بعيدة المنال.
من جهة أخرى، بدا «الاقتصاد في الأدوية» الأسلوب الجديد الذي اعتمدته تلك العجوز المصابة بداء السكري، وهي ليست وحدها، إذ يلجأ أفراد عديدون إلى هذه الطريقة لتوفير استهلاك الادوية، في ظل غياب أيّ ضمان صحي اجتماعي أو خاص، وارتفاع تكاليف الرعاية الطبيّة الخاصة، خاصة بعد رفع الدعم عن الأدوية.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


رواتب لا تكفي
معدل الراتب الشهري للأفراد لا يغطي الحاجات الأساسية من غذاء وماء ونفقات إيجار المنزل، الكهرباء، والتعليم. أضف إلى ذلك ظروف العمل المجحفة، الأمر الذي يهدد كرامتهم الإنسانية. تتجسد المشكلات الأساسية للعمل عموماً في البطالة والتوظيف على أسس المحسوبية وتدني قيمة الأجور مع ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية. أمّا للمياومين قصة أخرى، بين ظروف عمل تزداد صعوبة في ظل الأزمات الراهنة، وغياب أي عقد عمل، وعدم الحصول على مدخول بشكل منتظم، وتعدد الأشغال ليصبحوا قادرين على إعالة أنفسهم وعائلاتهم. يعمل أغلبهم في الحقول الزراعية/ البناء نهاراً، وكناطور ليلاً من دون أي وقت للراحة أو قضاء وقت مع العائلة والأولاد، ما يؤثر سلباً على الأمان العاطفي للأطفال وإحساسهم بالطمأنينة والسلام.
بالإضافة الى ذلك، يعاني المياومون من الاستغلال كتقليص أوقات الراحة أثناء الغداء، أو زيادة الأشغال في اللحظة الأخيرة قبل انتهاء العمل، بلا مردود إضافي. يواجه الناطور مثلاً مشكلة الاستغلال، ففي معظم الأحيان تطلب ربّات البيوت منه إرسال زوجته لمساعدتهن في الأعمال المنزلية بلا مقابل مادي.



على ضوء الشمعة
تعطّلت الأمور الأساسية للعيش الكريم بسبب غياب الكهرباء لساعات طويلة، خاصة بعدما لجأ العديد من السكان الى إلغاء الاشتراك لعدم قدرتهم على دفع الفاتورة الباهظة. قد أصبح السكّان يقضون معظم أوقاتهم في العتمة، والأطفال يدرسون على ضوء الشمعة، ويشعرون بالبرد الشديد بعد أن لجأت أسر كثيرة إلى التدفئة الكهربائية بعد ارتفاع أسعار المازوت والحطب. بالإضافة إلى هذه الأمور الأساسية، اختفت أمور أخرى تتعلق برفاهية الفرد وتواصله مع العالم الخارجي، مثل مشاهدة التلفاز والاتصال بشبكة الإنترنت.
من ناحية أخرى، ليس مستغرباً أن الأزمة الاقتصادية ألقت بظلالها على التعليم، وقد تضاعفت بعد تداعيات كورونا. أصبح التفلّت المدرسي وعمالة الاطفال واقعاً نعيشه، ما يجعل الفرد جاهلاً بالأمور الاساسية ويعرض كرامته الإنسانية للخطر. نتيجة الارتفاع الكبير في تكاليف التعليم في المدارس الخاصة أقدمت بعض العائلات على نقل أولادها من المدرسة الخاصة إلى المدرسة الرسمية، لكنهم ما زالوا عاجزين عن تأمين كلفة المواصلات المرتفعة جداً. أمّا النسبة الأكبر منهم فقد توقفوا عن إرسال أولادهم إلى المدرسة، أو إرسال بعضهم فقط لتقليل الأعباء. وكذلك، ترسل معظم العائلات أطفالهم إلى العمل، بخاصة العاملين في مجال البناء/الزراعة.



العوز يساهم في التبعية
بين تآكل الرواتب بنسبة كبيرة وانخفاض الحد الأدنى للأجور، وعدم الاستقرار السياسي والمالي، يجد الفرد نفسه غير قادر على تلبية حاجاته الأساسية. الوضع المادي الصعب هو السبب الرئيس الذي يقيّد حرية الأفراد، بما في ذلك تأمين مصاريف البيت والإيجار والكهرباء والأدوية.
ففي حين يعد الاكتفاء الذاتي سبيلاً إلى الاعتماد على النفس وتطوير الإمكانات الذاتية، والتقليل في المقابل من الاعتماد على المساعدات والخدمات، تعتمد غالبية الأسر أساساً على الرعاية الإنسانية للخدمات الصحية والطبية والتعليمية والإمدادات الغذائية، ما يهدد حقهم بالاستقلالية والخصوصية وبالتالي كرامتهم الإنسانية. أضف الى ذلك، الفساد والمساعدات المشروطة بولاء معين، بخاصة أن لبنان على أبواب انتخابات برلمانية، وذلك يؤثر على استقلالية القرار السياسي للأفراد ويزيد من التأثيرات وبعض السلوكيات التي قد تمارسها الجهات المانحة للمساعدات أو زعماء الطوائف والأحزاب.



مؤسسة «عامل»


تنشط المنظمات الإنسانية المحلية والدولية في لبنان للمساعدة في ظل عجز الدولة، وتسعى تلك المنظمات إلى تأمين بعض الخدمات الأساسية التي تساعد أعداداً كبيرة ومتزايدة من الفقراء والمحتاجين. من بين تلك المؤسسات الإنسانية، مؤسسة «عامل»، وهي أهم وأكبر المؤسسات الانسانية في لبنان التي تنفّذ برامج صحّية وتربوية وحقوقية واجتماعية للفئات الشعبية في مختلف المناطق اللبنانية من دون أي تمييز على أساس الهوية أو العرق أو الدين أو الجنس أو المنطقة أو الرأي.
يبدو أن كيفية تقديم الدعم هو العامل الأكبر في تحديد الاحترام من الدعم المقدم، حيث يشعر الأفراد بإحساس إيجابي بقيمة الذات إذا عاملهم الآخرون إيجابياً. لذلك، دأبت مؤسسة «عامل» على تنظيم ورشات عمل تدريبية لفريقها، بغية تهيئتهم للتعامل مع قضايا الناس، وتحويل طاقاتهم الكامنة إلى دوافع وآمال ايجابية للتغيير والتطوير في المجتمع، وبناء شخصيات قيادية، تأخذ المبادرات وتلعب دور المحرّك في بيئاتها المحلية والاجتماعية، في ظل رفض مؤسسة «عامل» الانجراف وسط موجة «بزنسة» العمل الإنساني التي شاعت في القرن الحادي والعشرين، إذ بات يقوم على العمل التقني البحت، من دون إعطاء أي أهمية للجوانب الإنسانية والاجتماعية للقضايا التي تحيط بهم.



منهجية القياس
أتاحت لنا مؤسسة «عامل»، من خلال مراكزها الموزّعة في كافة المناطق اللبنانية، فرصة لإجراء دراسة في محاولة لتقديم أداة لقياس الكرامة الإنسانية، وبالتالي احتساب مؤشر أولي للكرامة الانسانية يساعد في عملية المقارنة مع السنوات القادمة، سيما أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان في تدهور مستمر.
بما أن هدف الدراسة التعرّف إلى أوضاع الناس ومفهومهم للكرامة الانسانية، فقد اعتمدت المنهجيّة العلميّة لهذا البحث على التحليل النوعي أكثر منه على التحليل العددي. بالإضافة إلى المقابلات مع عينة من الأشخاص الذين يستفيدون من البرامج الصحّية والاجتماعية في مراكز مؤسسة «عامل»، قمنا بمراقبة التفاعلات وطرق التخاطب والتبادل بين مقدمي برامج الدعم ومتلقيها. كما قمنا بإجراء المقابلات ومناقشة الأوضاع الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية مع مقدّمي برامج الدعم والمتطوعين في مؤسسة «عامل».
بين قساوة العيش وصعوبات الحياة والتحديات الكثيرة، يشعر الناس بالحرمان والذلٌّ لتأمين الحاجات الأساسية


وبسبب عدم وجود دراسات بحثية سابقة حول قياس الكرامة الإنسانية، حدّدنا مقاييس رئيسية لبحث واستكشاف كيفية التأثير على كرامة الإنسان. هذا المعيار المركّب لتحديد الكرامة الإنسانية مؤشر أوليّ وبحاجة إلى التدقيق. وقد شمل خمسة محاور أساسية متشابكة هي: الحاجات الأساسية، والحرية، والسلام، والعدل، والاحترام. شملت الحاجات الأساسية، الغذاء والصحة والمسكن والتربية والعمل. والمقصود بالحرية، إضافة إلى حرية التنقل والتعبير والتجمع، حرية تقرير المصير والحد الأدنى من الاكتفاء المالي الذاتي. أما المقصود بالسلام فهو الأمن اليومي والاستقرار وعدم القلق الدائم، بينما لم يقتصر المقصود من العدل على المحاكم والقوانين، بل يشمل تقدير الذات. أمّا تعريف الاحترام فقد تُرك للمشاركين والمشاركات في البحث. بعد ذلك قمنا بحساب المؤشرات الأولية للمقاييس الخمسة الرئيسة. وكان المؤشر الأولي للكرامة الإنسانية عبارة عن جمع تلك المؤشرات الأولية الخمسة وثم تقسيمها على خمسة.

* للإطلاع على كامل التقرير: www.arabic.amel.org