الفكرة بسيطة للغاية. تدّعي أوروبا الغربية أنها مركز الديموقراطية الحديثة، وأن الحريات العامة، خصوصاً حرية التعبير، لا تنمو بعيداً عنها، وأنها كانت ولا تزال الحصن المنيع لكل من يُضطهد بسبب موقفه ومعتقده... وهو ما يُترجم من خلال الصحافة الحرة ودور النشر الحرة ومنتديات العمل العام الحرة.طبعاً، ليس سهلاً على أحد محاججة الغرب في أن قدرته على سنّ قوانين تحمي حرية الأفراد كبيرة وكبيرة جداً. كما لا يمكن نفي التداول الواسع في إدارة مؤسسات الدولة أو قيادة الأحزاب هناك. وهو ما يجعل النقاش مع الأوروبيين أسهل خلافاً لما يعتقدون، لأنه عندما تصل الأمور إلى ما هو خارج حدودهم، تظهر السياسات المركزية التي لا تحتمل المزاح. في هذه الحالة، تختفي القوانين الناظمة والحامية لحقوق الأفراد في القول والاعتقاد، هنا، يحضر «الأمن القومي» الذي يختصر، عملياً، كل منظومة المصالح في النظام الرأسمالي الغربي بكل أجنحته، الديموقراطية منها أو الليبرالية الاجتماعية أو المتوحّش وهو الأكثر فعّالية. وهنا، أيضاً، تحضر الدولة المركزية، التي تصبح فجأة فوق كل المؤسسات الأخرى. وحيث يصبح الجهاز الأمني مساوياً في قدراته لكل المستويات الأخرى. ولكن كيف لنا أن نتعايش مع إدارة أمنية تحظى بغطاء المؤسسات المدنية والتشريعية؟
في حالة محطة «دويتشه فيله» التي قرّرت طرد صحافيين لأنهم عبّروا عن رأيهم وأدانوا أفعال العدو الإسرائيلي وجرائمه، لجأ «العقل الجمعي» لألمانيا إلى العقل الكامن منذ عقود خلت. إلى حيث لا تزال النازية تتحكّم بعقول من هم في موقع المسؤولية في كل مؤسسات ألمانيا. إلى الذين يعتبرون أن ما يرونه هو الحقيقة المطلقة. وهم قرروا أن أي نقد لإسرائيل إنما يحمل في طياته عدم اعتراف بوجودها. وهم، في هذه الحالة، يريدون لإسرائيل أن تكون دولة قوية ومستمرة، ولا يهم كيف يجري الأمر. ويريدون منا، نحن العرب وأهل بلاد الشام وسكان فلسطين، أن ندفع ثمن جرائمهم ضد الأقلية اليهودية في القرن الماضي، وأن يكون الثمن على شكل أن نقبل بترك منازلنا لهم، وأن نعمل في خدمة أمن المستعمرين والمرتزقة، وأن نقمع كل رأي مخالف حول وجود إسرائيل أو حول ما تقوم به. وإذا ما خالفنا ذلك، نصبح نحن من يرتكب الذنب ومن يستحقّ العقاب، وأوّله الطرد من الجنة الغربية، وربما ما هو أكثر.
حسناً، لقد سهّل الألمان علينا الكثير من الوقت لحسم مسألة يجب التعامل معها منذ زمن طويل، على أساس أنها بديهية. هي فكرة تقوم على أن المانيا قرّرت، من طرفها، معاداة وتجريم كل من ينتقد إسرائيل أو كل مطالب باستعادة الحق في فلسطين المحتلة. وبما أن الألمان قرّروا ذلك، ومارسوه من خلال خطوات كثيرة ليس آخرها طرد إعلاميين، بينهم لبنانيون، لأنهم انتقدوا كيان العدو، فإن أقل ما نقابلهم به هو العمل بالمثل. وبناءً عليه: صارت ألمانيا عدواً حقيقياً لنا، وتقدّمت الصفوف إلى مقدمة الأعداء الواجب مقاومتهم ومنعهم من الراحة حيث ينتشرون وحيث يتواجدون.
أشهرت حكومة ألمانيا وممثلوها في لبنان، من السفارة إلى جمعيّاتها «الخيرية» عداوتها لرافضي الاحتلال الإسرائيلي، وأقلّ ما نقابلها به هو اعتبارها عدواً وجب مقاومته


كثرة الكلام هنا لا تنفع. في لبنان، تدعم الحكومة الألمانية، مباشرة أو عبر جمعياتها الخيرية (اقرأ: التجسّسية)، كل العقول اليمينية العفنة التي تشبه النازية الألمانية. في لبنان، قرّرت ألمانيا تصنيف المقاومة ضد العدو بأنها منظمة إرهابية ممنوع عليها أي نشاط في ألمانيا أو في أي مؤسسة ألمانية. في لبنان، وسّع الالمان دعم مجموعات من الجواسيس الذين ينشطون لجمع المعلومات الأمنية عن المقاومة، ويقومون بالتحريض عليها عبر وسائط مختلفة، عسكرية أو أمنية أو إعلامية أو ثقافية أو اجتماعية أو خلافها. ويتقدم الهجوم الألماني المعادي رأس السفارة الألمانية في بيروت، إضافة إلى كل طواقمها الدبلوماسية أو الأمنية، بالإضافة إلى المؤسسات الألمانية الأخرى التي تتخذ غطاء اجتماعياً أو إنسانياً أو ثقافياً أو إعلامياً. كلّ هؤلاء ليسوا في حقيقتهم سوى أجهزة معادية، يجب مقاومتها وطردها من لبنان، ويجب منع أيّ من هؤلاء من الاستقرار في هذه البلاد...
لقد تولّى الألمان أدواراً عدة تبين أنها جميعها تصبّ في خدمة العدو، من عمل بحريتها العسكرية وفق القرار 1701، إلى النشاط الأمني لفريقها الدبلوماسي الساعي إلى دعم وتنمية عمل كل من يجاهر بالعداء للمقاومة في لبنان، وصولاً إلى توسيع دائرة الإنفاق المالي على مشاريع تهدف فعلياً إلى اختراق المجتمعات الأهلية في بيروت وبقية مدن لبنان، بالإضافة إلى تعزيز الحضور الإعلامي الذي لا يتحمّل رأياً منتقداً لجرائم العدو الإسرائيلي في فلسطين ولبنان وسوريا، كما لا يتحمّل إدانة لجرائم ممالك القهر والموت في سوريا والعراق واليمن.. هو إعلام هدفه فقط خدمة العدو الإسرائيلي والترويج للكراهية ضد العرب والمسلمين، ومروّج لأبشع أنواع الليبرالية في العالم.
بناءً على ما يفعله هؤلاء، صار لزاماً القول من دون مداراة أو دبلوماسية، ومن دون التوقّف عند أي ضمانات رسمية، إن الألمان في لبنان لن يدفعوا ثمن هذه الأخطاء الكبيرة التي ترتكبها بلادهم. ولذلك، يجب أن تكون الدعوة لطرد الألمان من لبنان، دعوة صريحة ومباشرة. وبمعزل عن أي تفسير لخلفية هذه الدعوة أو أبعادها، فإن الأهمّ هو أن نصرخ بأعلى أصواتنا، والقول جهاراً نهاراً: أيها الألمان في لبنان، تصرّفوا من الآن فصاعداً على أنكم تعيشون في أرض معادية!