الانجاز الاستراتيجي لحزب الله يتجاوز النجاح في تطوير مقاومة تملك قدرات كمّية ونوعية وبشرية لا سابق لها في تاريخ حركات المقاومة في وجه العدو. بل، وبما لا يقل أهمية، النجاح في تحقيق انجاز استراتيجي حفر في وعي المؤسستين العسكرية والاستخبارية (فضلاً عن السياسية)، قناعة بعدم قدرة كيان العدو على القضاء على المقاومة في أي حرب. حقّق ذلك معادلة ردع غير مسبوق في تاريخ الصراع مع اسرائيل تتعارض مع حقيقة أن لبنان يعاني من نقاط ضعف تكوينية في الجغرافيا والديمغرافيا والامكانات، ومن انقسام حادّ حول الموقف من اسرائيل.من المهم التفريق بين الوقائع كما هي وبين حضورها في حسابات صاحب القرار في الطرف المقابل. الاخير ينطلق من رؤيته للبيئة كما يتصوّرها في ذهنه، وهذه الصورة قد تكون مطابقة للوقائع أو مغايرة بنسبة أو بأخرى. الأهم أن العناصر التي لا ترد في حسابات صانع القرار لا تؤثر في طبيعة قراره، لكنها تؤثر في نتائجه. وهذا، ببساطة، لأن القرار بعد أن يصدر، ليس صانعه وحده من يتحكم في نتائجه وتداعياته.
انطلاقاً من ذلك، يمكن فهم الحسابات والتقديرات والخيارات الخاطئة التي دفعت واشنطن وتل ابيب الى اتخاذ قرار بشن حرب على حزب الله عام 2006. كما يمكن فهم عدم استدراج العدو نفسه الى التورط في سيناريو حرب مدمرة توفرت لها عوامل دافعة محلية واقليمية، في مراحل سابقة، بالاستناد الى حسابات وتقديرات خاطئة.
مع ذلك، لا بد من تسجيل ملاحظتين: الأولى أن عدم تحقّق هذا السيناريو لم يكن أمراً مسلماً به أو نتيجة تلقائية لتعاظم قدرات حزب الله، بل أيضا نتيجة استراتيجية مدروسة اعتمدها الحزب على مدى السنوات الماضية استهدفت وعي مؤسسات القرار في كيان العدو. والثانية، أن المفاعيل الردعية لرسائل حزب الله ما كانت لتتحقق - بالمستوى والوتيرة والشكل الذي شهدناه - لولا نجاح الحزب في ارساء معادلة داخلية وفّرت شرطاً لازماً لتسارع لا نظير له، في سباق مع تسارع جهوزية جيش العدو للانقضاض عليه وعلى لبنان. (وهذا من أهم شروط الفهم الدقيق والعميق لارتداع العدو خلال السنوات الماضية).
المؤكد أن الجهة المؤهلة للتعبير الأدق عن المفهوم الاستراتيجي والعملياتي لاسرائيل في مواجهة حزب الله هي قيادة جيش العدو. لكن الملاحظ أن مقارنة هذا المفهوم مع ما ورد على لسان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، يكشف عن تقاطع كبير مع ما هو حاضر بتفاصيله وبشكل صريح لدى قيادة جيش العدو.
خلاصة المفهوم الاستراتيجي للعدو ورد في مقالة (قبل نحو سنة ونصف سنة) لرئيس أركان الجيش افيف كوخافي، في مجلة «بين هكتفيم» للفكر العسكري الصادرة عن مركز دادو، أشار فيها إلى أن «تغيّر التهديدات والعدو بشكل جوهري» فرض على هيئة أركان الجيش ومنتدى القيادة العليا (يضم الضباط من رتبة عميد وما فوق)، اجراء دراسة معمقة استمرت شهوراً لقراءة معالم تطور التهديد الذي أصبح يشكله حزب الله (الى جانب المقاومة في غزة)، ومدى فعالية الجيش في مقابل التحدي الذي يمثله للامن القومي الاسرائيلي.
ومع أن الدراسة هدفت الى البحث عن «وصفة نصر»، عبر محاولة ملاءمة الجيش مع متغيرات التهديدات والعدو، إلا أنها انطلقت من دراسة دقيقة لعناصر القوة التي يتمتع بها حزب الله، والتي تلمّس الشعب اللبناني نتائجها في ارتداع العدو على مدى السنوات الماضية.
... أقرّ كوخافي بأن حزب الله استغل مظلة الردع لتطوير قدراته كماً ونوعاً، و«على المدى الطويل تبلور أعداؤنا كجيوش ارهابية»، في اشارة الى نجاح حزب الله في انتاج صيغة هجينة طوّع وفقها قدرات يفترض أنها حكر على الجيوش النظامية، وطوّر تكتيكات سلبت العدو تفوقه الاستخباراتي والتكنولوجي عبر توزيع قدراته العسكرية والصاروخية «بطريقة لا مركزية (...) جعلت من الصعب للغاية تحديد مكانها وتدميرها».
كلام كوخافي، الذي يتقاطع مع ما أشار اليه السيد نصر الله، يُظهر أن خطة حزب الله العملانية القائمة على توسيع نطاق انتشار قدراته الاستراتيجية والتكتيكية سلبت العدو القدرة على الاحاطة الاستخبارية، خصوصاً أنها بلغت كماً هائلاً تجاوز السقوف التي ما كانت لتخطر على بال العدو وغيره. وهذا أفقد العدو الرهان على تدمير قدرات المقاومة عبر عملية عسكرية خاطفة (أو حتى ما هو أعلى من ذلك).
«جيش حزب الله» (والمقاومة في غزة)، بحسب تعبير كوخافي، استند الى عاملين أساسيين: الاول، الانصهار والاختفاء الذي قضم تفوق الجيش الاسرائيلي في الاستخبارات والقدرات الهجومية الدقيقة. والثاني، وفر للحزب نيراناً صاروخية قادرة على أن تكبّد إسرائيل ثمناً كبيراً في جبهتها الداخلية.
اسرائيل اكتشفت الغابة ولم تعثر على الأشجار


انجاز آخر سجله حزب الله، من زاوية أخرى، تمثل بإدراك اسرائيل بعض من حجم قدرات حزب الله، لكن على قاعدة «إدراك الغابة من دون العثور على الاشجار». وحقّق ذلك مفاعيل ردعية فعالة جداً من دون أن تكون على حساب امتلاك المعلومات الدقيقة التي يشترط توفرها لتحويلها الى حسم وانتصار عبر استهدافها وتدميرها. وبذلك، يكون حزب الله قد التف على تفوق سلاح الجو عبر تكتيك توسيع نطاق الانتشار والإخفاء والتضليل والتمويه... بما مكَّنه من سلب العدو العثور على كل أو معظم الاشجار رغم تفوقه الهائل في البر والبحر والجو. لكن، هذه المرة، أضاف حزب الله متغيراً نوعياً تمثل بامتلاك قدرات دفاع جوي، لم تتضح حتى الآن معالمها، ما يمنحه مساحة اضافية من المناورة وتوسيع حرية المبادرة العملياتية في الرد واستهداف العمق الاسرائيلي في أي مواجهة عسكرية واسعة أو محدودة. ولا يعني ذلك أن الحزب امتلك دفاعا جوياً يعطل سلاح الجو الاسرائيلي وانما هو مسار متصاعد، كما حصل في المجالات الاخرى، بدأ بتقييد حركة سلاح الجو... وتدرك قيادة العدو خطورة هذا المتغير في حالتي السلم (استخباراتيا) والحرب (عملياتيا).
هكذا يكون حزب الله قد نجح في بلورة نموذج قتالي حفر مفاعيله (المسبقة) في وعي مؤسسات القرار، يستند الى إخفاء مراكز الثقل العملاني، (التي يتم استهدافها في الحروب الكلاسيكية) وتوزيعها عبر خلايا مستقلة تضيع معها معالم عموده الفقري العسكري، وهو ما أدى الى ادراك العدو فقدانه القدرة على توجيه ضربات قاصمة وحاسمة.
النتيجة التي خلصت اليها المواجهة بين حزب الله وجيش العدو، منذ ما بعد حرب 2006، وأخذت أشكالا واساليب متنوعة، وشملت ساحات متعددة، ولا تزال متواصلة، هدفت بحسب تعبير كوخافي الى أن «كل هذه العناصر مجتمعة استهدفت تحييد التفوق العسكري الأساسي الذي يتمتع به الجيش منذ سنوات طويلة»، وأدت الى «وضع اسرائيل بالتدريج أمام حقيقة جديدة: اسرائيل لا تستطيع ان تتخذ قرارا حاسما بشن حرب، وسيكون مكلفًا ومؤلمًا عليها أن تهاجم أعداءها وردعهم عن الاستفزازات واستمرار بناء التهديد على حدودنا». لكن ما اعتبره كوخافي هدفاً ومحاولة، ثبت في اختبار النتائج على مدى أكثر من 15 عاما، أنه كان ردعاً وفر لحزب الله ولبنان (الى جانب عوامل وشروط أخرى) مظلة حماية وأمن استثمرها في التحول الى قوة اقليمية أسست لواقع لبناني واقليمي على النقيض مما كان يخطط له الاميركي.