ليس لك أن تفهم كيف تعمل المنظومات الأممية والسياسية الوطنية في غالبية البلدان العربية، وكيف تجري ترقية «الفشل» والاستنجاد به وتصديره أو استيراده في بلداننا. النموذج، هنا، حالة المدير العام لوزارة التربية فادي يرق، وطلب وضعه خارج الملاك لتسلّم مسؤولية تربوية عليا في إحدى الدول العربية. بيان الوزارة لم يحدّد الجهة التي وظّفته، ولكنّ المرجح أن تكون جهة أممية كـ«اليونسكو» أو «اليونيسف».ليس علينا أن نفهم معايير هذا الاختيار، لكن المعايير، بالنسبة إلينا كمواطنين، هي مقدار نجاحه في مهامه كمدير عام، وتقييم شامل لإنجازاته في هذا الموقع كونه أهم من موقع الوزير نفسه.
استعراض «إنجازات» المدير العام يقودنا إلى انحدار التعليم في لبنان، الرسمي والخاص والجامعي، إلى أدنى مستوياته، علماً أنه المعنيّ الأول بالأمر كونه مسؤولاً عن سير العمل في هذا القطاع خلال السنوات العشر الماضية. من هذه «الإنجازات»: تزوير 28 ألف شهادة جامعية، امتناع المدارس الخاصة عن تطبيق القانون 46 ودفع الدرجات للمعلمين في التعليم الخاص (يرأس يرق صندوق التعويضات لمعلمي الخاص)، الترخيص لجامعات خاصة لا تستوفي الشروط، تدنّي جودة التعليم في كل مدارس لبنان، عدم الالتزام بفتح روضات في القطاع الرسمي (27 روضة فقط)، عدم تنظيم وشرعنة وضع المتعاقدين وقضم حقوقهم، الكلام عن ملفات فساد وواقعة «اختفاء» 2400 كمبيوتر من مستودعات المرفأ، الترخيص لعشرات المدارس الخاصة على حساب التعليم الرسمي، فوضى إدارية داخل الوزارة، عدم تنفيذ الخطط والاتفاقات الدولية المبرمة مثل إعلان إنشيون - اليونسكو 2015، تعزيز الفوارق والتفاوتات بين التعليمين الرسمي والخاص وانعدام تحقيق العدالة في التعليم، الفشل الذريع في التعليم عن بُعد للمرحلة ما قبل الجامعية... وفي «عهده» جاءت نتائج أول مشاركة للبنان في برنامج PISA (عام 2015) أن «أكثر من ثلثَي طلابه لم يستوفوا مستوى الكفاءة الأساسية في العلوم والقراءة والرياضيات» (البنك الدولي، 2020).
الحصيلة المثبتة لكل هذا كانت انهياراً شاملاً لمستوى التعليم وفشل نظم الإدارة في تحقيق أهداف التعليم بشكل عام، وهي المهمة التي تقع على عاتق المدير العام.
لا تقاس معايير النجاح بما أراد المدير العام تحقيقه بل بما حققه فعلياً. وليس تبرير فشله في تنفيذ الخطط والبرامج وعجزه بسبب التجاذبات السياسية هو المعيار، بل ما أنجزه من تطوير للنظم وتحسين للنتائج وتطوير للتعليم والرؤى ووضع خطط متكيّفة مع واقع التعليم والسياسات وظروف البلد.
إذاً، وفق أي معايير تستعين المنظمات بـ«الكفاءات» لمساعدتها على تطوير التعليم؟ وهل غاية هذه المنظمات فعلاً النهوض بالتعليم أم تسويات سياسية و«تزبيطات» نتاج علاقات مصالح يدفع ثمنها مواطنو هذا البلد؟ وهل لنا أن نتساءل إن كان ممثل اليونسكو في لبنان يملك مؤهلات وكفاءات فعلية أم أنه عُيّن بالطريقة نفسها وبتسويات سياسية؟ وهل تقوم اليونسكو والدول المانحة فعلاً بتقديم العون التقني في لبنان أم تعرض حلولاً آنية لا تحقق التطوير في التعليم، ما يعيد طرح مسائل جوهرية: لماذا تستمر الدول المانحة في دعم منظومات تعليمية فاشلة وكأنّ التعليم هو آخر همومها، فيما تبهرنا المنظمات الأممية بدراسات شاملة وتقارير موجعة عن واقع التعليم في دولنا العربية؟
التعليم، هو رؤية متكاملة لمستقبل البلد، وهو الرابط بين المعرفة والثقافة والعلم والتطور والعدالة والعمل والتنوع الثقافي والإثني... هو منفعة عامة مشتركة بين مكوّنات البلد (اليونسكو، 2020)، وإذا لم تتحقق العدالة فيه سيساهم ذلك في خلق توترات وزعزعة التضامن الاجتماعي وتعزيز الفوارق. لماذا لا تقرأ المؤسسات الأممية تقاريرها وتعمل لتحقيق التزاماتها من خلال خيارات صائبة عوضاً عن التسويات السياسية؟

* باحث في التربية والفنون.