مقالات مرتبطة
كلام الخليل مثير للذهول. فهو يقرّ مسبقاً بأن كل الإجراءات التي سترد في الموازنة ليست مستدامة طالما أن هناك سعر صرف متقلّباً ومتعدّداً. وحتى لا يتم تحميل الرجل كل الآثام التي ارتكبها مصرف لبنان بحقّ سعر الصرف وخلق تعدّديته، فإن الإشارة إلى الخطيئة لا تغسل يديه منها إلا إذا اقترنت بأفعال. الفعل الوحيد الذي يرد في الموازنة، بهذا الخصوص، هو احتساب متوسط سعر الصرف في السنوات الماضية. في عام 2019 بلغ المعدل الوسطي 1584 ليرة لكل دولار، وفي عام 2020 بلغ 3945 ليرة، ووصل في 2021 إلى 10083 ليرة. ومن أجل احتساب وتقدير الأرقام في مشروع موازنة 2022، اعتمد خليل متوسط سعر الصرف للفصل الأخير من عام 2021 والبالغ 20 ألف ليرة مقابل الدولار.
هكذا اختار وزير المال أن يقف في موقع المتلقّي، واستمرار هيمنة السياسات النقدية على السياسات المالية. قد يقال إن السياسة النقدية هي التي تحدّد سعر الصرف، لكن هذا الأمر فيه الكثير من الخطأ. فالاقتصاد هو الذي يحدّد سعر الصرف، ولا سيما سعر الصرف العائم. وموازنة الدولة تمثّل جزءاً أساسياً من الاقتصاد، سواء عبر نفقاتها أو عبر إيراداتها. فما تضخّه الدولة من نقد عبر الرواتب والأجور وسائر النفقات التشغيلية والنفقات الاستثمارية له مفاعيل مهمّة على الاقتصاد، كما أن للضرائب وجبايتها مفاعيل مهمّة أيضاً. وسعر الصرف يعكس التوازنات الاقتصادية المحلية تجاه الخارج. أي الإنتاج المحلي السلعي والخدماتي تجاه الاستيراد السلعي والخدماتي. في هذا المجال، يصبح تحفيز القطاعات مهماً في خلق فرص العمل والتصدير...
رغم ذلك، تأتي الموازنة وفق رؤية محاسبية بحتة. فالتصحيح يرد من منظور محاسبي للتوازن. وحتى التوازن لم يكن موجوداً في مشروع الموازنة. فالعجز سيبلغ 15250 مليار ليرة، أي أن وزارة المال ستقترض من مصرف لبنان هذا المبلغ وتضخّه في السوق. وبمعزل عن أهمية العجز كمؤشّر يطلب صندوق النقد الدولي التعامل معه، إلا أن وزير المال يصف الموازنة بأنها «غير تضخمية». فيما، في الواقع، سيكون للعجز الكبير الذي يمثّل 31% من النفقات مفاعيل تضخّمية في السوق.
وفي إطار الرؤية المحاسبية، قرّر وزير المال أن يسلّط الضوء على ضحايا النظام الذي أتى به وزيراً، أي موظفي القطاع العام. هؤلاء ضحايا زبائنية هذا النظام وقد تسوّلوا على أبواب الزعماء وظيفة في القطاع العام، ثم طالبوا بتصحيح أجورهم وبمكاسب اجتماعية تتعلق بتعويضات وتقديمات وسواها. ليسوا كلّهم متسوّلين، لكن معظمهم منحازون سياسياً من أجل الارتقاء الوظيفي والاجتماعي. وهم وقود استمرارية هذا النظام في كل المراحل. اليوم قرّر النظام أن يضحّي بهم. وعلى لسان وزير المال، يقول هذا النظام إن خفض عدد موظفي القطاع العام من أهم الأولويات إلى جانب «إصلاح النظام التقاعدي والمنافع المرتبطة به».
الأولويّة في إدارة الأزمة لا تكمن في توحيد سعر الصرف أو إنعاش الاقتصاد بل في إزالة الأعباء عن كاهل النظام
إذاً، الأولوية في إدارة الأزمة لا تكمن في توحيد سعر الصرف، ولا في إنعاش الاقتصاد، بل في إزالة الأعباء عن كاهل النظام. لكن هذا لا يعني أن كل ما ورد في مشروع الموازنة لا قيمة له، بل على العكس هناك إجراءات تعدّ جيّدة مثل الضريبة على شغور العقارات التي تدفع تجار العقارات إلى تأجير ما هو شاغر في ملكياتهم، أو تسديد ضريبة كبيرة. إجراء كهذا سيدفع كلفة الإيجارات وأسعار العقارات إلى الانخفاض، لكنه ليس سوى إجراء بسيط لترقيع ثقب واسع.
حتى الآن، تضخّمت الأسعار سبع مرّات، لكن الدين العام لم يتدنّ إلا نصف مرّة. كان الدين الحكومي في نهاية 2019 يبلغ 81.3 مليار دولار، وبحسب التقديرات الواردة في تقرير الموازنة بات يبلغ الآن 43.7 مليار دولار. هكذا يصبح السؤال: كم من التضخّم يجب أن يتحمّل لبنان حتى يصبح الدين مستداماً؟ ففي مقابل كل الفقر الحاصل، لم يذب إلا قليل من خسائر المصارف، وما زال النظام المالي يحمل خسائر بقيمة 69 مليار دولار، فيما خسائر المجتمع أكبر من ذلك بكثير.