ينتمي الكاتبان جورج مالبرونو وكريستيان شينو إلى صنف من الصحافيين الفرنسيين في طور الانقراض، مع تركّز وسائل الإعلام الفرنسية بيد الكارتيلات الكبرى، وإلغاء وظيفة الخبير في غرف التحرير. وقد خاض الصحافيان المعروفان على نطاق واسع في فرنسا مغامرة مهنية كبيرة مشتركة، رسّخها اقتسامهما زنزانة «الجيش الإسلامي في العراق» واحتجازهما فيها ١٢٤ يوماً، قبل أن تدفع فرنسا 15 مليون دولار فدية لتحريرهما مع سائقهما السوري. وقد تناوب الثنائي، خلال عقدين، على مراكمة خبرات في قضايا المشرق العربي، وعلى تأصيل طريقتهما في التغطيات، والتي ارتكزت على تقديم مقالات سريعة غنية بالمعلومات في جريدة «الفيغارو» اليمينية بالنسبة إلى مالبرونو، وتقارير شينو الإذاعية على موجات راديو فرنسا الدولية، المملوك من الحكومة الفرنسية (الإعلام العام)، قبل أن يعودا مجدداً الى الميدان من خلال موضوعات يثريانها بالتوسع والبحث والاستقصاء، وتحويلها الى كتب تتسم عادة بالجدية والعمق. تزامن دخولهما الميدان الصحافي في وقت واحد تقريباً عام ١٩٨٩، بعد تخرج مالبرونو من معهد الصحافة في باريس، وأنهى شينو دراساته في معهد العلوم السياسية، مع ميل إلى الاستعراب. عمل مالبرونو عشرة أعوام في فلسطين، لصحيفة «لا كروا»، فوكالة الصحافة الفرنسية، ثم راديو فرنسا الدولية، ليستقر أخيراً في «الفيغارو»، فيما بدأ شينو عمله في القاهرة محرراً في صحيفة «التقدم» المصرية الفرنكوفونية. قدم الثنائي الإعلامي ثمانية كتب مشتركة، بدأت بكتاب «الحجارة الى البنادق، أسرار الانتفاضة»، تلاه كتابان عن صدام حسين وسنوات العراق في ظل حكمه، وكتاب حواري لمالبرونو عن الراحل جورج حبش بعنوان «الثوار لا يموتون أبداً». بعدها أصدر مع شينو كتابين سجاليين عن قطر وتدخلها في الشؤون الفرنسية ودعمها لبعض أجنحة الإخوان المسلمين في فرنسا ورشوتها لسياسيين.الكتاب الأخير بعنوان «الانحدار الفرنسي»، يصدر في توقيت سجالي هو أيضاً، عشية ترشح الرئيس إيمانويل ماكرون المنتظر للانتخابات الرئاسية في الربيع المقبل. ويشير العنوان الفرعي للكتاب «الإليزيه، الكي دورسيه، المخابرات الخارجية، أسرار الحرب من أجل التأثير الاستراتيجي» الى احتدام الخلاف حول الملفات الخارجية والدبلوماسية، في مقدمتها الملف اللبناني.
أحد البنود الخلافية في دوائر القرار الفرنسي يتعلق بملف المالية العامة والسياسة النقدية والقطاع المصرفي في لبنان. إذ يظهر فريق قريب من ماكرون، يقوده مسؤول ملف «سيدر» بيار دوكان، ميلاً واضحاً إلى ضرورة تغيير رياض سلامة واستبداله بمرشح يرضي القطاع المصرفي في لبنان والعالم أيضاً، في مقابل تيار مصرفي كبير في فرنسا يريد الإبقاء على سلامة، ليس احتراماً له، بل لكونه قاد مع المصرفيين اللبنانيين عمليات مالية كبيرة استفادت منها مؤسسات مالية ومصرفية فرنسية. ويخشى هؤلاء أن سقوط سلامة قد يقود الى سقوطهم أيضاً.
«الانحدار الفرنسي» ليس كتاباً استقصائياً فحسب، وإنما دعوة الى أخذ العلم، لمن لا يريد أن يصدق بعد إلى أي درك من العجز والتخبط نزلت إليه «فرنسا العظمى» في سياستها الخارجية. وهو يشكل مرثية حقيقية للدبلوماسية الفرنسية.
نتيجة الجهد أثمرت عشرة فصول تدرجت من صعود وفشل المبادرة الفرنسية في لبنان (احتلت ثلث الكتاب المؤلف من 320 صفحة)، الى معضلة الذاكرة الفرنسية مع الجزائر، واللوبي الإسرائيلي في فرنسا والتعاون الاستخباري الفرنسي ــــ الإسرائيلي ــــ المغربي، والنووي الإيراني، ومحور باريس ــــ بغداد ــــ القاهرة، والتخبط في ليبيا، وأسرار البغض المتبادل بين إيمانويل ماكرون ورجب طيب إردوغان، وملامح ماكرون الشرقية، وصداقة أمراء الخليج. وشكلت كلها الإطار الرئيسي لفهم أي أرضية جيوبوليتيكية يقف عليها الفرنسيون في رسم سياستهم، واستعان خلاله الكاتبان باستجواب شبكة واسعة من العلاقات داخل المؤسسات الفرنسية، وفي مراكز القرار في البلدان التي كتبا عنها.