شكّل المسرح اللبناني أرضية نموذجية لكشف حدود اللعبة الدبلوماسية الفرنسية، والعجز عن تحقيق أي اختراق حقيقي لمساعدة الوطن الصغير على تشكيل «حكومة مهمة»، بعد انفجار الرابع من آب 2020، واستقالة حكومة حسان دياب. المدخل الأهم، من دون تأخير، لفهم أحد أسباب فشل الدبلوماسية الفرنسية بتحويل المبادرة إلى واقع، هو أن الدعوة الفرنسية نفسها إلى إصلاح لبنان والتدقيق الجنائي وإجراء إصلاحات، تفتقد إلى المصداقية، كما تفتقد إلى أنياب، إذ انتهى التهديد بالعقوبات لمن عرقل تنفيذ المبادرة، أو تشكيل الحكومة، بمنع عشرة لبنانيين من السفر إلى أوروبا!اكتشف الإليزيه، في تعرّجات المبادرة، أن قنبلة العقوبات لا تخيف المسؤولين اللبنانيين لأن الفرنسيين أنفسهم جزء أساسي من كتلة المستفيدين من القطاع المصرفي اللبناني، ووظيفته في توزيع العمولات في صفقات ما بين الغرب والشرق، وإمساك حاكم المصرف المركزي رياض سلامة بملفات كل العمليات والتحويلات الفرنسية انطلاقاً من بيروت، بحسب الكاتبين مالبرونو وشينو، وحصانته بالتالي من أيّ مساءلة ستطيح حتماً بكثيرين.
يرد في الصفحة 65 من الكتاب ما نصّه: «بذلت خلية الإليزيه الدبلوماسية ووزارة الخارجية ما بوسعهما لقتل فكرة العقوبات، وتحايل التكنوقراطيون على ماكرون لإحباط مساعيه. ذلك أن لبنان ونظامه المصرفي أسديا خدمات كثيرة للشركات الفرنسية. الدولة العميقة، وزارة المالية، المصرف المركزي الفرنسي، وزارة الخارجية لا تجهل ذلك». وينقل الكتاب عمن يصفه بـ«أحد الشهود» على تلك الألاعيب الصغيرة، والذي عمل سنوات طويلة لمصلحة إحدى تلك الشركات، قوله: «في لبنان يقبلون بالتحويلات المكتوبة يدوياً، والتي لا أثر لها في قاعدة بيانات المصرف الإلكترونية. كنا نفرم في باريس أوراق التحويلات من بيروت، كي لا يتسنّى لأحد الادّعاء بأننا قمنا بالتحويل، كما أن مخابرات وزارة المالية لن تكون قادرة على اكتشافه، وإذا ما ذهب أي قاضٍ إلى بيروت للتحقيق فأتمنى له كل التوفيق في العثور على قاضٍ لبناني يقبل بالتعاون معه». ويتابع الشاهد نفسه: «لقد استفدت من هذا النظام سنوات عديدة وسمح لي بدفع مليارَي دولار لعملاء من أصل رقم أعمال بلغ 80 مليار دولار، ولست الوحيد الذي فعل ذلك».
على رأس المصرف المركزي اللبناني يقف رياض سلامة الذي قد يرغب بعض المسؤولين الفرنسيين الكبار بإزاحته من منصبه. لكنه، بحسب نائب فرنسي، على اطّلاع كامل على كل الخدمات التي قدمتها المصارف اللبنانية للشركات الفرنسية، وملفات من هذا النوع تعود إلى سنوات حكم الرئيس جاك شيراك لا تزال موجودة، وماكرون خائف من ضربة ارتدادية إذا ما عاقب مسؤولين لبنانيين. مخاوف أخرى غير بعيدة عن الطائفية تنتاب الفرنسيين من ظهور صدوع في بنيان النظام المصرفي اللبناني، «فالكثير من المصارف لا تزال بيد المسيحيين. الفرنسيون يخشون في حال انهيار البلاد أن يسقط النظام المصرفي الجديد بيد الدياسبورا الشيعية الثرية في أفريقيا» (ص 88)، يقول اقتصادي لبناني.
عميل للمخابرات الفرنسيّة: نحن على علم كامل بما يجري لدى ميقاتي ورجلنا حاضر في المكان بشخص مصطفى أديب


مع ذلك، حاول الفرنسيون الالتفاف على إفلات الزعامات اللبنانية من التهديد بالعقاب، بمحاولة فرض رئيس للحكومة من خارج نادي رؤساء الوزراء السابقين، وخصوصاً سعد الحريري الذي خاطبه الرئيس ماكرون في لقائهما الثاني (ص 51) في أيلول من العام الماضي بالقول: «سعد ارحل عن السلطة، عيّن أحداً ما، ليس أنت من يأخذ السلطة». اختارت خلية الإليزيه، والمخابرات الخارجية الفرنسية، مصطفى أديب، بتوافق مسبق مع شقيق الرئيس ميقاتي طه ميقاتي (الذي تبرّع بمقر في باريس و100 ألف يورو سنوياً لمشروع مركز أبحاث يزوّد الرئيس ماكرون بالأفكار، من دون أن يرى النور) ونجله عزمي، ونصحت الرئيس الحريري باقتراح اسمه أمام اجتماع لرؤساء الوزراء السابقين. لكنّ مصطفى أديب ليس تكنوقراطياً فحسب، أو رجلا مجهولاً لدى الفرنسيين ليصبح رئيس «حكومة مهمة». فالرجل الذي دفع به الفرنسيون إلى تشكيل الحكومة يفتقد للكثير من الحس السياسي والكاريزما، لكنه لا يفتقد إلى الدعم (ص35). «يشرح مسؤول لبناني تاريخ العلاقات بين فرنسا ومصطفى أديب. فعندما كان الأخير مديراً لمكتب رئيس الوزراء نجيب ميقاتي عام 2005، قال لي عميل للمخابرات الفرنسية: على كل حال نحن على علم كامل بما يجري لدى رئيس الوزراء، ورجلنا حاضر في المكان بشخص مصطفى أديب». القوة المنتدبة السابقة لا تزال تحتفظ بشبكة مخبرين واسعة يُطلعونها على كل ما يجري في لبنان (ص35) «وقد علمنا خلال تحقيقنا أن دبلوماسياً في الخارجية اللبنانية يسلّم السفارة الفرنسية في بيروت معظم البرقيات الدبلوماسية التي كان يرسلها سفير لبنان في باريس إلى رؤسائه، وإلى رئيس الجمهورية».


أيّ سياسة فرنسية في لبنان وما هي محرّكاتها؟
لا يبدو أن جديداً طرأ على السياسة الفرنسية منذ التحوّل الكبير الذي أجراه الرئيس جاك شيراك في سياسة فرنسا العربية، بالتفاهم مع الرئيس جورج بوش الابن، بعد خلافهما حول الحرب على العراق، واستصدار القرار 1559 عام 2004، لتحويل لبنان إلى ساحة مواجهة مع سوريا.
لا توجد سياسة لبنانية لفرنسا بمعزل عن الهاجس السوري. رغم ما جرى منذ عام 2011، والحرب التي عصفت بسوريا وبموقعها في لبنان، وميزان القوى الجديد، إلا أن الفرنسيين لا يزالون يعيشون في كوكب آخر، لم يأخذوا علماً به حتى اليوم، ولا يزالون يصنّفون القوى اللبنانية تبعاً لعلاقتها بسوريا، ويضعون فصل لبنان عن سوريا، ومواجهة سوريا في لبنان محوراً لكل سياساتهم (ص٦١). وتشير المذكّرة الداخلية الأحدث لوزارة الخارجية الفرنسية، الصادرة في 23 كانون الثاني 2019، إلى أن «هدفها هو صدّ الصعود القوي للمعسكر السوري في لبنان. وفي سبيل ذلك يمكن لفرنسا الاستناد إلى الزعماء السياديين، سعد الحريري، سمير جعجع ووليد جنبلاط، وهم مصمّمون على المواجهة، وينتظرون الدعم الفرنسي رغم تقلبات عرّابيهم في السعودية والإمارات، وينبغي إظهار المزيد من الدعم للمعسكر السيادي والضغط بالتوازي على من يعرقل حسن سير المؤسسات والتوازنات التقليدية للبلاد: جبران باسيل وحزب الله».
بعد التحوّل الكبير، كان لا بد أيضاً من التقارب الاستخباري بين الأجهزة الفرنسية والموساد، وبين الجيشين الفرنسي والإسرائيلي. الطرفان مع ذلك لا يثق أحدُهما بالآخر. الفرنسيون الذين تراجعت قوتهم في المتوسط إلى حاملة طائرات واحدة، هي «شارل ديغول»، كانوا سعداء بالمناورات مع الجيش الإسرائيلي، وفتح المجال الجوي في فلسطين المحتلة أمامهم للإغارة على أهدافهم في سوريا، ومراقبة إسرائيل، وإيران (ص83). «يقول ضابط فرنسي كبير: استطعنا من خلال التعاون أن نحدّد المؤشرات لأي ضربة إسرائيلية ضد إيران. فعندما نرى نوعاً محدداً من الطائرات الأميركية، وصواريخ بعينها، سيكون ذلك إنذاراً بالحرب. لقد درسنا ما إذا كان بوسع إسرائيل الإغارة مباشرة ووحدها على إيران. من دون إمداد لطائراتها في الجو، سيكون على الطيارين أن يقفزوا بالمظلات في طريق العودة، لذلك لا تؤمن هيئة الأركان الفرنسية بتلك الضربة للبرنامج النووي الإيراني. إيران بلد شاسع ومنظّم حول اقتصاد وصناعة حربية مدفونة ومحصّنة. هناك خياران مع ذلك: الأول غارة بوخزة شوكة لعملاق لا طائل منها، أو ضربات جوية كثيفة، وفي هذه الحالة ينبغي أن يكون الأميركيون في العملية، لكن أعتقد أنهم غير مستعدّين لخوض الحرب ضد إيران».


كيف أحبط سعد الحريري «سيدر»؟
للنقمة الفرنسية على الرئيس سعد الحريري قصة يرويها مالبرونو وشينو في الكتاب. الفرنسيون الذين استدعوا مؤتمراً دولياً لجمع 11 مليار دولار قبل حلول الكارثة الاقتصادية بلبنان، يحمّلون الحريري المسؤولية الكاملة عن فشل مؤتمر «سيدر» وتأخير تنفيذه، ثم إسقاطه. فصلان أنهيا شهر العسل بين الحريري وباريس. الأول يعود فيه مالبرونو الى مقالة له نشرت في «الفيغارو»، وإلى الصدمة التي أحدثها أحد مساعدي الحريري (الدكتور نديم الملا)، الذي فاوض الشركات الفرنسية المرشحة للحصول على صفقات واستثمارات في إطار «سيدر» في لبنان، مقابل الحصول على عمولة 20 في المئة.
الفصل الآخر يرويه بيار دوكان المسؤول عن ملف «سيدر» في لبنان، ويتعلق بخداع الحريري في صفقة سفن بقيمة 300 مليون دولار فاوض الإيطاليين عليها من دون علم الفرنسيين لغايات مالية. ويقول دوكان: «اتفقنا على لائحة من 280 مشروعاً استثمارياً، وقلنا للبنانيين: رتّبوا أولويّاتكم، لكن لا جواب. وعندما جاء الحريري الى باريس للقاء إيمانويل ماكرون وجان إيف لو دريان في العشرين من أيلول 2019، وبّخ الرجلان الحريري على التقصير».
وفي اجتماعه مع رؤساء الشركات الفرنسية الكبرى، سمع الحريري أسئلة حول المشاريع المفترضة: مطار... طرق؟ في الحقيقة لم يكن الحريري كثير الكلام، لكنه لا يريد أن يدع للدول المانحة أن تراقب الاستثمارات من داخل أجهزة الرقابة اللبنانية أو ديوان المحاسبة. صحيح أن فرنسا حشدت الأسرة الدولية لمساعدة لبنان، لكنها تطمح إلى أن تستفيد منها شركاتها، كأن تكون لـ«الستوم» صفقة توربينات، وأن تتولى «توتال» صفقات الغاز والنفط.
تذرّع الحريري أمام الفرنسيين بتدخل وزير المالية علي حسن خليل في المفاوضات على الصفقة كي لا يعيّن مندوبيه لإتمامها، فجرى تحييد خليل من قبل مرجعيته (أي الرئيس نبيه بري). ثم اختبأ الحريري خلف رفض وزير الدفاع في حينه إلياس بوصعب لصفقة شراء زوارق للقوات البحرية في الجيش اللبناني. فظنّ الفرنسيون أن جبران باسيل هو من يعرقل الصفقة، قبل أن يكتشفوا من خلال بوصعب نفسه أن الحريري هو من يرفض الصفقة، وأنه يفاوض الإيطاليين. وهي صفقة لم تتمّ في النهاية، بل سقط «سيدر» بأكمله.


تكاذب نادي رؤساء الحكومات وخدعة ميقاتي
لم يخرج السفير مصطفى أديب من قبّعة رؤساء الوزراء السابقين ليستقر مكلفاً من بعبدا في الثلاثين من آب بتشكيل الحكومة. الأمر لم يتم فجأة، بل له مقدمات. يرد في الصفحة 43 ما يوضح الأمر: «الفرنسيون أفهموا الحريري أنهم لا يرغبون برؤية وجهه في رئاسة الحكومة. حتى أن الإليزيه طلب من الحرس القديم التنحّي جانباً، وترك رئيس الوزراء الجديد يعمل ويجسّد تجدد لبنان. ولكن دون ذلك طموحات الحريري وميقاتي».
ما جرى بعد ذلك، في اجتماع الثامن والعشرين من آب لنادي رؤساء الوزراء السابقين، وقبل يومين من الزيارة الماكرونية الثانية، كان خدعة متبادلة (ص٣٤). نجيب ميقاتي يروي المشهد قائلاً: «بدأنا بعرض الأسماء، وكانوا عشرة. وكنا نقول هذا لا يصلح لأنه لا يحسن الفرنسية، الثاني موضة قديمة. الثالث لن يكون قادراً على تنفيذ المبادرة الفرنسية. ثم قال لي سعد: ما رأيك بمصطفى أديب؟ فأجبته: في الحقيقة لم أفكر به، ولكنها فكرة جيدة. فأجابني: سأهاتفه، وأتحدث إليه».
الحقيقة مختلفة. فبعد خروجه مكلفاً من بعبدا في الثلاثين من آب، بادر ميقاتي أديب بالقول: «أنت لي، ولكن من اليوم فصاعداً ستكون سياسياً مع سعد الحريري». ويقف حول ميقاتي شقيقه طه، سفير جزر بالاووس في الأونيسكو في باريس، ونجله عزمي، وكلاهما عملا بالتنسيق مع رئيس الاستخبارات الخارجية برنار إيميه على طرح اسم مصطفى أديب، والقبول به عندما يمرّره الحريري في اجتماع رؤساء الوزراء السابقين، وجعله يتبناه كمرشحه، قبل أن يتخلى عنه ليعيد ترشيح نفسه، وتسقط الخدعة.