لماذا يتقلّب سعر صرف الدولار مقابل الليرة بالطريقة التي نشهدها؟ باستثناء أن مصرف لبنان يضخّ الدولارات ثم يجمعها من السوق، ليس هناك تفسير آخر لهذه التقلبات. كل ما يحصل حالياً هو نتاج التعميمَين 158 و161 والآليات التي تطبّق بها هذه التعاميم. عملياً، يبدأ تطبيق التعاميم مع مصرف لبنان، الذي يضخّ الأموال للمصارف، وهذه الأخيرة تدفعها لأصحاب الحسابات المصرفية الذين يصرفونها لدى الصرافين، فيشتريها مصرف لبنان منهم بطرق غير مباشرة أيضاً.وبمعزل عن الخسائر التي تترتب على مصرف لبنان نتيجة هذه العمليات والأهداف التي يتوخاها منها، لا يجب إغفال أن الطلب التجاري لا يزال يؤدي دوراً في ارتفاع سعر الصرف. فمستوردو المحروقات لا يزالون يستوردون الكميات نفسها من المازوت والبنزين، وعليهم أن يؤمّنوا كامل قيمة مستوردات المازوت بالدولار الورقي، فضلاً عن 15% لمستوردات البنزين. وهناك أيضاً مستوردو الأدوية والمواد الغذائية وسواهم من التجار ممن يشترون الدولارات من السوق ويسجّلون طلباً كبيراً يؤدي، مع مفاعيل التعاميم المذكورة، إلى ارتفاع في سعر الصرف. لكن التقلبات بين الارتفاع والانخفاض لا تفسير لها سوى المضاربات التي تحصل وسط هذه العمليات. اللاعب الأساس في هذه المضاربات هم الصرافون وملحقاتهم وأزلامهم الذين يتعاملون مع السوق على منصّات «واتس آب» أساسية تتفرّع منها منصّات صغيرة تسارع إلى مجاراة الطلب والأسعار، فتضاعف الطلب وترفع الأسعار أيضاً. وغالبية هذه العمليات تتم تحت نظر مصرف لبنان الذي يموّل سوق القطع، وحده، بالليرة اللبنانية وبالكميات التي يتم بها شراء الدولارات من السوق.
كل هذه التفسيرات تأتي في سياق أزمة سياسية من أبرز مظاهرها توقف الحكومة عن الانعقاد، ولجوء رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى افتعال إشكال يتعلق بدعوة الحكومة إلى الانعقاد لمناقشة مشروع موازنة 2022، رغم أنه لم ينجز بعد، ولا يتوقع أن يكون فيه أي إصلاحات، بل سيكون، بحسب المعطيات المتداولة، عبارة عن عملية تصحيح لأرقام النفقات والإيرادات في الموازنة أكثر منه تعديلات في التوجهات الاقتصادية والسياسات الضريبية والاستثمارية والتشغيلية للدولة. يترك هذا الأمر تأثيراً سلبياً على توقعات السوق تدفع سعر الصرف إلى التقلب مع الحفاظ على اتجاه تصاعدي، انسجاماً مع سلوك المضاربين، من مصرف لبنان إلى الصرافين.
وسط كل هذه التطورات، يُلقى اللوم على منصّات سعر الصرف باعتبارها الجهة التي تقوم بتسعير الدولار في لبنان وتدفع السعر ارتفاعاً أو نزولاً. ومصرف لبنان يحاول تقديم الصرافين ضحية لارتفاع سعر الصرف الذي يدوزنه وفق الرؤية السياسية التي يخدمها لمصلحة المنظومة وكل أركانها. فرغم أن لهذه المنصات تأثيراً في السوق، إلا أنها لا تقارن بما يقوم به اللاعب الأبرز، أي مصرف لبنان، ولا سيما لجهة ضخّ الدولارات وإعادة شرائها. وهذا السلوك ينسجم مع القرار الذي اتخذه أمس ثلاثيّ: رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وزير المال يوسف الخليل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لجهة إلغاء سقف الكوتا المحدّدة للمصارف بالحصول على الدولارات من مصرف لبنان بسعر منصّة «صيرفة». بمعنى آخر، مصرف لبنان سيضخّ الكثير من الدولارات للمصارف من دون أي ضمانة بأن المصارف ستعيد ضخّها في السوق. لكن يتوقع أن يبرّر الثلاثي قراره بأن هناك حاجة لسحب السيولة بالليرة اللبنانية وضخّ المزيد من الدولارات بين يدي المصارف وأصحاب الحسابات، باعتبار أن هذه الآلية ستبطئ من تدهور الليرة وارتفاع الدولار. إلا أنه بات واضحاً أنه منذ بدء هذه الآلية عبر التعميم 161، جرى ضخّ أكثر من 50 مليون دولار في السوق من دون أي مفاعيل إيجابية على سعر الصرف، وقد ازدادت عمليات المضاربة وانكسرت أكثر السيطرة على سعر الصرف حتى بلغ 34 ألف ليرة أمس. فالضخّ النقدي بهذه الطريقة يكون أقرب إلى عملية تبذير الدولارات بدل استعمالها بشكل هادف وواضح. فهل هناك سياسة نقدية يتّكل عليها سلامة من أجل القيام بذلك؟ لا شكّ بأن مصرف لبنان يتخبّط في إدارة الأزمة كما تخبّط سابقاً في الكثير من التعاميم التي طبقت بغير غايتها أو لم تطبق أصلاً. وهو لا يحاسب أياً من الجهات التي ترتكب مخالفات في السوق، بل يترك لها التصرّف بحرية طالما أنها تخدم مآربه في خدمة المنظومة السياسية الواقفة على أبواب الانتخابات بلا حول ولا قوّة.
منذ بدء العمل بالتعميم 161 جرى ضخّ أكثر من 50 مليون دولار في السوق من دون تأثير إيجابي على سعر الصرف


ويجب الإشارة أيضاً، إلى أن مشروع سحب الليرات من السوق هو مشروع وهمي، إذ إن المصرف المركزي يملك الكثير من الأدوات لمنع المضاربات إذا ظنّ أن المصارف أو الصرافين يقومون بها من وراء ظهره. فحتى الآن، لم نسمع عن أي محاسبة لأي مصرف أو صراف خارج إطار «الكرباج» الذي تحدّث عنه مرّة نائب الحاكم السابق حسين كنعان عندما أشار إلى أنه لا يمكن السيطرة على سعر الصرف من خلاله. والمحاسبة التي يشار إليها بوجه المضاربات على الليرة، هي المحاسبة المؤسساتية وليس المحاسبة الأمنية. لذا، فإن التهويل الذي يقوم به الحاكم في إطار ممارسته لرئاسة الهيئة المصرفية العليا، بوقف رخص الصرافين، لا يغلق الجرح النازف في سعر الصرف طالما أن المسؤول عن الحفاظ على الليرة، بحسب قانون النقد والتسليف، هو من يمارس المضاربة عليها بشكل مباشر. المحاسبة يجب أن تبدأ في مصرف لبنان وليس خارجه. فمن أجل ماذا تصدر هذه التعاميم؟ وبأيّ أهداف؟ أيّ رؤية لإدارة الأزمة؟ كل ذلك غير واضح، ولم يعلن المصرف المركزي أو رئاسة الحكومة أو وزارة المال تصورّهم باستثناء أنهم يتعاملون مع الأزمة لتحميل الأكثرية الساحقة أعباء الأزمة وتجنيب شريحة الأقلية التي ينتمون إليها، مع شركائهم في السياسة بعد كل ما نهبوه معاً، ما يترتّب عليهم من أعباء وخسائر.