ليست التجربة الأولى التي يخوضها رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل مع الرئيس نجيب ميقاتي، ولن تكون الأخيرة، من الآن وحتى الانتخابات النيابية، على الأقل، إن لم يكن حتى نهاية العهد. لكن الساعات الأخيرة قد تكون دفعت باسيل إلى أن يستذكر أيام تفاهمه وخصومته مع الرئيس سعد الحريري. بين ميقاتي والحريري، الغلبة للأخير في صياغته تسويات وخصومات علنية من دون مواربة. كان الحريري واضحاً مع باسيل، منذ اللحظة الأولى وحتى افتراقهما على خلاف حادّ، كما كان واضحاً مع حزب الله، وطبعاً مع الرئيس نبيه بري. وهو لم يناور مع رئيس الجمهورية ميشال عون أو مع صهره. كان خلافه معهما علنياً وواضحاً، وكان يقول في السر ما يقوله في العلن، حتى في أدقّ تفاصيل خلافاته معهما. لم يتصرف الحريري مع باسيل إلا بتفاهمات كثيرة، لا بل إن الأخير صاغ معه أفضل التسويات الممكنة والمريحة، في مجلس الوزراء وخارجه، ومرّرا لبعضهما كثيراً من الملفات. إحدى حسنات الحريري السياسية أنه لم يكن متلاعباً، ولو أن هذا خرق للمفاهيم السائدة في السياسة اللبنانية، فدفع الثمن من جيبه. مشكلة باسيل مع ميقاتي أن الأخير لم يكن يوماً واضحاً، لا معه ولا مع غيره. هذه سمة ميقاتي التي يعرفها باسيل منذ أن أعلن إسقاط حكومة الحريري عام 2011. لم يكن ميقاتي يومها خيار باسيل، كما لم يكن خياره اليوم. في الحالتين، رجحت كفّة حزب الله وبري وسوريا في اختيار ميقاتي. لم يتمكّن الرئيس المكلف عام 2011 من تشكيل حكومته إلا بعد مفاوضات شاقة مع عون وباسيل. وفي عام 2013، كان موقف باسيل من قانون الانتخاب وهيئة الإشراف على الانتخابات والتعيينات الأمنية أحد أسباب سقوط حكومة ميقاتي. ومع اعتذار الحريري أخيراً عن عدم تشكيل الحكومة، عاد اسم ميقاتي إلى التداول، لكنه لم يكن خيار عون وباسيل اللذين كان لهما مرشحوهما إلى رئاسة الوزراء. لكن، غلب خيار ميقاتي بفضل بري وحزب الله، وخاض باسيل معه مفاوضات شاقة انتهت بلقاء ما وصف حينها بـ«مفاوضات الصهرين»، أي باسيل وصهر طه ميقاتي، فولدت الحكومة.
ما حصل في الأيام الأخيرة أن ميقاتي أراد توجيه رسائل عدة في اتجاهات مختلفة، لكنه في الواقع لم يصب إلا باسيل فيها.
رسالته إلى الشارع السني لا تصرف بهذه السهولة. فالحفاظ على الصلاحيات يُصرف فقط على مستوى الصف الأول مع نادي رؤساء الحكومات الذين يتمسّكون به لأن لا سند أخيراً للمرجعيات السنية غير رئاسة الحكومة. أما الشارع السني، ففي مكان آخر. فالحريري الأب والابن دفعا من مالهما الخاص، ومن المال العام، من أجل تأطير الشارع وكسبه لسنوات بويع فيها رئيس الحكومة الراحل، ومن ثم نجله. والشارع السني اليوم، وطرابلس نموذج فاقع، لا تعنيه مناوشات التعيينات القضائية ولا المقايضات السياسية بقدر ما يعنيه تأمين رزقه. وهذا ليس مؤمّناً اليوم من جانب الزعماء السنة، وميقاتي في مقدمهم.
أما الرسالة الثانية إلى السعودية فليست بالقدر الذي يمكن أن يكسر موقفها من لبنان ككل، ومن ميقاتي نفسه، وهو موقف مزمن. السعودية، مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والصفقات العسكرية، أقصى ما يمكن أن تصل إليه هو اتصال هاتفي، لا أكثر ولا أقل. فلا استقالة وزير ولا موقف ميقاتي من باسيل والحكومة، سيبدلان رأيها. الحريري نفسه، بعد كل خصوماته مع عون وباسيل، لم يستطع نيل حظوة لديها. فكيف الحال في الوقت الضائع الذي لا ترى فيه السعودية مجالاً لعودة علاقتها الطبيعية مع لبنان، ولا تجد حرجاً في رفض استقبال رئيس الحكومة السني.
مشكلة باسيل مع ميقاتي أن الأخير لم يكن يوماً واضحاً، لا معه ولا مع غيره


أما الرسالة الأكثر وضوحاً فكانت إلى باسيل. عرف رئيس التيار معنى صياغة تفاهم ميقاتي وبري وحزب الله، وهناك من لم يستثن القوات والحزب التقدمي الاشتراكي، من ضخّ أجواء معارضة، في تحالف غير معلن ومختلف التوجهات لتوجيه ضربة له. والضربة، هنا، لا تتعلق بقرار المجلس الدستوري وحده. فكل ما صيغ حول التسوية التي سقطت، وما يرسم له من الآن وصاعداً، يعني أن تكتلاً عريضاً بات يقف في وجهه علناً. بالنسبة إلى التيار، يلعب ميقاتي لعبة رئاسة الحكومة، بالتنسيق مع الثنائي، وليس فقط بري. لا يضير حزب الله عدم اجتماع الحكومة، كما لا يضير ميقاتي، طالما أن الاجتماعات الوزارية مفتوحة، وأن رئيس الحكومة يُستقبل في العواصم التي زارها استقبالاً رسمياً يليق برئيس الوزراء، وأنه باق في منصبه إلى أجل غير معلوم، في وقت يحتاج باسيل في الأشهر الأخيرة قبل الانتخابات إلى مجموعة انتصارات، لا إلى انتصار واحد، وهو يعرف أن ميقاتي ليس متحمساً لإعطائه إياه، وليس في وارد العودة إلى مجلس الوزراء، ولا الاستقالة بطبيعة الحال، لأن ما أراده من رئاسة الحكومة حصل عليه. إلا أن مشكلة باسيل من الآن وصاعداً لن تكون مع ميقاتي وحده، بعدما تضاعف عدد خصومه من جهة واحدة. وهذا تماماً ما يشكل له رسالة أقوى من كل ما وجهه إليه الحريري في عز خصومتهما. وهو في رده التصاعدي تباعاً، لا يزال ينتظر معرفة موقف حزب الله الواضح وليس الرمادي، ليبني ردود فعله التي يراهن خصومه على أنها ستبقى مدروسة وتحت السقف لاعتبارات مستقبله الرئاسي، وهنا نقطة ضعفه التي يمسكها عليه حلفاؤه وخصومه.