تعرف شركات الطيران من أين تؤكَل الكتف. وتعرف، في عزّ الأزمات الاقتصادية، كيف تحافظ على أرباحها، بل وتزيدها، بـ«ابتكارات» وأساليب تتضمّن ابتزازاً وتذاكياً وتحايلاً على القوانين. حتى أزمة «كورونا» التي أثّرت سلباً على سوق السفر العالمي، حوّلتها هذه الشركات في لبنان إلى «فرصة استثمارية»، مستفيدة من إجراءات فرضتها وزارة الصحة في مطار بيروت الدولي لمواجهة الجائحة.من بين هذه الإجراءات فحوصات الـ pcr التي أُلزم المسافرون بإجرائها لدى وصولهم إلى المطار مقابل 50 دولاراً تُضاف إلى سعر بطاقة السفر. وتولّت الجامعة اللبنانية تأمين الكادر اللازم لإجراء الفحوصات، وفق اتفاق بينها وبين وزارة الصحة والمديرية العامة للطيران المدني، يقضي بحصول الجامعة على 45 دولاراً من الـ 50 دولاراً، فيما تذهب الدولارات الخمسة المتبقّية لحساب الوزارة. ونصّت الآلية على أن تحوّل شركات الطيران بدل الـ pcr إلى شركتَي الخدمات الأرضية (الشركة اللبنانية للنقل lat وشركة الشرق الأوسط للخدمات الأرضية meag)، على أن تحول هاتان الشركتان المبلغ إلى حساب محتسب الجامعة اللبنانية في مصرف لبنان.
(أرشيف ــ مروان طحطح)

بداية، سارت الأمور على ما يرام، وكانت غالبية شركات الطيران تفسح المجال أمام المسافرين للدفع بشيكات مصرفية، وتحوّل إلى شركتَي الخدمات الأرضية شيكات مصرفية بالدولار من حساباتها في المصارف لتحويلها إلى حساب الجامعة اللبنانية في المصرف المركزي، بعد تدقيق وزارة الصحة. وكانت الجامعة تتقاضى الشيك المصرفي (بالدولار) من المركزي على أساس سعر المنصة (3900 ليرة)، من دون أن يشكّل ذلك عائقاً، خصوصاً أن سعر المنصة «كان قريباً من سعر صرف الدولار في السوق الموازية (6 آلاف ليرة)»، بحسب مصادر الجامعة. في تموز الماضي، اتّخذت شركات الطيران قراراً بتقاضي أسعار تذاكر السفر بالدولار الـ«فريش» أو ما يعادله بالليرة على أساس سعر الصرف في السوق الموازية. هكذا، وجدت الجامعة نفسها أمام معادلة خاسرة: الشركات تقبض بالدولار الطازج، وتحيل إلى حسابها في المركزي شيكاً مصرفياً بدل أتعابها تتقاضاه على أساس سعرٍ غير عادلٍ لا يزال متوقّفاً عند 3900 ليرة، في الوقت الذي كان قد بلغ فيه الدولار في تموز الماضي 18 ألفاً!
في المبدأ، تبيع الشركات تذاكر السفر للمسافرين ومن ضمنها بدل فحص الـpcr بالدولار الأميركي الطازج أو ما يعادله بسعر السوق السوداء في اليوم الذي يتمّ فيه حجز التذكرة. ورغم أن تلك الكلفة، بحسب الاتفاق ، تعود إلى الجامعة اللبنانية ووزارة الصحة، إلا أن شركات الطيران ارتأت أن تطفئ خسائرها في المصارف من أتعاب الجامعة. هكذا، وبدلاً من أن تحول المبلغ كما حصّلته إلى شركتَي الخدمات الأرضية، تحتفظ بالدولار الـ«فريش» وتحوّل من حساباتها العالقة في المصارف شيكات بالدولار، ما يعني أن الجامعة ستقبض الـ45 دولاراً من حسابها في المركزي على أساس أنها 176 ألف ليرة. والمفارقة أن «اللبنانية» لم تتقاضَ فلساً واحداً من أتعابها منذ تموز الماضي. ولئن كان التأخر في قبض الأتعاب «ليس إشكالية في حد ذاتها، خصوصاً أن دونه ذلك دورة طويلة من التدقيق وقد تتأخر لشهرين أو ثلاثة»، على ما يقول رئيس الجامعة اللبنانية السابق فؤاد أيوب، تكمن الإشكالية في مكانٍ آخر: «في الغبن الذي يلحق بالجامعة من شركات الطيران». وبحسبة بسيطة، فبحسب مختبرات الجامعة اللبنانية، يبلغ العدد التقريبي لفحوص pcr خلال الفترة الفاصلة بين تموز وتشرين الثاني مليون فحص. وإذا طبّقنا سعر صرف الدولار اليوم المقدَّر بـ24 ألف ليرة تقريباً، تكون الشركات قد دفّعت المسافرين نحو ألف و200 مليار ليرة! وفيما لو أرادت أن تعطي الجامعة «حصتها» البالغة 45 دولاراً، فبدلاً من أن يساوي «حقها» ألفاً و80 مليار ليرة، ستتقاضى 175 ملياراً و500 مليون ليرة، أي عملياً تكون الشركات قد أكلت من أتعاب الجامعة نحو 80%!
منذ تموز الماضي أكلت الشركات نحو 80% من أتعاب الجامعة


ولأن الغبن فاق كل الاحتمالات، أحال محامي الجامعة أخيراً كتاباً إلى المديرية العامة للطيران المدني للمطالبة بالأتعاب بالدولار الطازج أو ما يعادله بالليرة، «إلا أننا لم نتلقَّ أي جواب حتى اللحظة»، على ما تقول مصادر الجامعة. وإن كان رئيس مطار بيروت الدولي، فادي الحسن، يعتبر أن «الدولار دولار وما في شي اسمو فريش أو مش فريش»، مشيراً إلى أنه حتى في نص الاتفاق ذُكر المبلغ بالدولار، من دون أن يرفق بأي توضيحٍ آخر. بحسب الحسن، بالنسبة إلى الشركات «الدولار لم يتغير، وهذه الأخيرة لديها حسابات في المصارف تتصرّف بها»، مؤكداً من الجهة الأخرى أن «لا علاقة للمديرية العامة للطيران بالتحويل والموضوع بكليته عند شركات الطيران».
صحيح أن الدولار دولار، إلا أنه في عزّ الأزمة التي تمر بها البلاد، لم تعد تلك المقولة واقعية، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار «تنصيبة» الشركات. فهي إذ تُحصّل من المسافرين الـ50 دولاراً بقيمتها الأصلية أو بالليرة وفق سعر السوق السوداء وتعمل على تحويلها إلى حساباتها في الخارج، فيما تقوم بدفع أتعاب الجامعة بشيك مصرفي من حساباتها المحتجزة في البنوك. هكذا، تعوّض خسائرها في المصارف اللبنانية بـ«سرقة» الجامعة اللبنانية... بمعيّة شركات الخدمات الأرضية. والسؤال هنا: لماذا لا يؤخذ من المسافرين بالقيمة نفسها التي يُدفع فيها للجامعة؟ ومن المستفيد أيضاً من هذه الأموال، إضافة إلى الشركات؟



الـpcr من 50 دولاراً إلى 30 دولاراً
في إطار الإجراءات الجديدة التي اتخذتها لمواجهة فيروس كورونا، أصدرت وزارة الصحة، أول من أمس، قراراً عدّلت بموجبه بدل فحص الـpcr للقادمين عبر مطار بيروت الدولي. ويقضي القرار بخفض المبلغ المتوجّب على القادمين من 50 دولاراً إلى 30 دولاراً يدفعه القادمون بواسطة البطاقة الائتمانية. ومن المفترض أن يَلحق هذا القرارَ نقاشٌ لتحديد «حصة» الجامعة منه. وفي هذا السياق، تشير مصادر الجامعة إلى أن المبلغ الذي قد يُحدد للجامعة يتأرجح ما بين 10 أو 15 دولاراً.