لم يدرس معدّا قانون «الهوية التربوية»، النائبان إدغار طرابلسي وأسعد درغام، الأثر الاجتماعي والاقتصادي للقانون. مثل هذا الاقتراح في بلد عاجز، التعليم الرسمي فيه هو الحلقة الأضعف، يمكن أن يسهم في تحقيق المشروع القديم ــــ الجديد للمدارس الخاصة، ولا سيما للأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية، وهو إدارة تعليم كل طلاب لبنان بتمويل من الدولة.بحيازة الهوية، أو البطاقة التربوية، يصبح بإمكان أيٍّ من أولياء الأمور الطلب من الدولة بدل منحة لتسجيل أولاده في مدرسة خاصة، والدولة ملزمة، حينها، بتأمين المنحة. وبما أن نوعية التعليم في المدارس الخاصة أفضل من المدارس الرسمية، سينتقل معظم تلامذة التعليم الرسمي إلى الخاص على حساب الدولة، وستدفع الدولة عن قسم كبير من التلامذة في التعليم الخاص منحًا تعليمية لتحقيق المساواة. والأمر نفسه يسري على التعليم الجامعي أيضًا.
في لبنان، يجري البحث عن حلول للعوارض والظواهر وليس لمسببات الأزمة. نعم، التعليم الرسمي مأزوم، لكن الحل لن يكون بهوية تربوية، بل بوضع سياسات تربوية ناجعة تجعل من التعليم الرسمي ــــ وليس التعليم الخاص ــــ الخيار الأساس. فمسألة تحقيق العدالة في نوعية التعليم ليست مشروطة بفتح إمكانية انتقال تلامذة التعليم الرسمي عبر مساعدات ومنح من الدولة إلى الخاص، بل بجعل التعليم الرسمي متساويًا مع الخاص على الأقل ليكون للأهل حق اختيار المدرسة التي يرغبون في تعليم أبنائهم فيها.
في الأرقام، هناك أقل من مليون تلميذ لبناني في المدارس. فرَضًا، ستدفع الدولة منحة سنوية قيمتها مليون ليرة فقط، سيكون المبلغ المخصص نحو 1000 مليار ستُصرف للمدارس الخاصة، عدا ما سيدفعه الأهالي من أقساط وتكاليف. ومن المفيد الإشارة الى أن حوالى 40 - 45% من التلامذة يستفيدون من منح تعليم من القطاع العام، والصناديق تجاوزت قيمتها السنوية 500 مليار ليرة قبل سنوات، عدا الضمان الاجتماعي ووزارة الشؤون.
بهذه المبالغ نستطيع ليس فقط النهوض مجدّدًا بالتعليم الرسمي، بل وتحقيق تفوّقه على الخاص حتمًا، تضاف إليها المبالغ المرصودة للمركز التربوي (أكثر من 200 مليون دولار). لكن المشكلة هنا تكمن في وضع خطة وسياسة واضحة تحرّرنا من هيمنة المحاصصات وتستعين بخبرات أصحاب الكفاءة من واضعي مناهج ومدرّبين وإعداد للمعلمين، خطّة حقيقية لإعادة هيكلة قطاع التعليم التي يعطّلها الساسة مالكو المدارس الخاصة منذ عقود.
في الغرب، التلامذة لا يحتاجون الى هوية تربوية. فهم حكمًا يستفيدون من تخفيضات التلامذة لمن هم دون 16 سنة، يركبون الباصات مجانًا، يشترون الكتب والقرطاسية بحسومات، يدخلون السينما والمعارض بحسومات... أما في لبنان، فمن يراقب التسرّب المدرسي، أو عمالة الأطفال، أو تزوير الوثائق، أو مستويات التعليم في الخاص، أو الموازنات المدرسية المضخّمة، أو رواتب المعلمين أو شهاداتهم، أو غسل الدماغ العقائدي؟
هل تعتقدون فعلًا أن كل المدارس الخاصة بالمستوى نفسه؟ باستثناء مدارس النخبة وبعض المدارس الإفرادية، فإن الكثير من المدارس الخاصة تفتقر الى صفة المؤسسة التربوية، فهل تستطيع الوزارة فرض نوعية تعليم عليها؟
لنفترض هذا السيناريو: مزارع في عكار، اختار أن ينقل ولده من المدرسة الرسمية إلى الخاصة قرب منزله، فرفضت المدرسة تسجيله واعتبرته دون المستوى التعليمي لعمره رغم نجاحه في الرسمي، فإمّا أن يعيد صفّه أو يبحث عن مدرسة أخرى! هل هذه عدالة؟
سيناريو آخر، موظف في مؤسسة عامة يحصل على منحة تعليم سنوية توازي 40% من القسط، أي أكثر من منحة الهوية التربوية، هل ستحسم منحة المؤسسة أم ستُضاف إليها منحة الهوية التربوية؟ هل سيحصل على منحتين؟ أيّ الخيارات فيه عدالة؟
الهوية التربوية ستُرسي لاعدالة على الصعيدين المالي والتربوي، وستضع بيد المدرسة الخاصة القرارين التربوي ودفق الأموال من خزينة الدولة، بينما الحلّ المستدام هو استنهاض التعليم الرسمي ليصبح متكافئًا مع الخاص ومتوفرًا لكل تلميذ. عندها نتحدّث عن خيارات الأهل، فالعلاج ليس في حلول آنية بل جذرية، ولو استنزفنا بعض المال في السنة الأولى، لكننا نبني للسنوات المقبلة.
ما من دولة في العالم يحتل التعليم الخاص فيها 70% من أعداد المتعلّمين إلا لبنان، هل نتحدّث عن العدالة وكلفة تعليم تلميذ واحد في الخاص تتجاوز 60 - 70 ألف دولار من الحضانة حتى الماجستير على أقل تقدير، ليتخرّج ويعمل براتب لا يتجاوز 5 آلاف دولار سنويًا؟ التعليم في الخاص استثمار مالي فاشل، لكن الناس مكرهون ولا خيار لهم، وهو سرقة مشرّعة تستند إلى حاجة الناس لتعليم أولادهم، حتى صار خدمة ندفع للحصول عليها، بينما هي حقّ من الحقوق البديهية.
* باحث في التربية والفنون