منذ 17 عاماً بدأ رئيس حزب القوات سمير جعجع رحلة العبور إلى الدولة، من دون أن يبلغها، لا لشيء سوى لأن خصومه يحولون دون بناء الدولة التي يحلم بها. وإلى حين الهبوط الآمن، يبني جعجع دويلته التي يُشرّع فيها الاحتكارات والاعتداءات بالسكاكين وتسكير الطرقات وصبّ الباطون في الأنفاق والاستعراضات العسكرية المسلّحة. لكنه يحرص على معاكسة أفعاله لأقواله، معوّلاً على ضعف ذاكرة خصومه من جهة، وعلى الذين لا يُدخلونه في عِداد الأعداء لكونه ينتمي إلى محور 14 آذار. آخر الإنجازات القواتية: احتكار للمازوت وضرب بالسكاكين لمن يوجه انتقاداً للقائد، ثم مطالبة بضبط الأمن والاحتكام لمؤسسات الدولة وأجهزتها
(هيثم الموسوي)

منذ عامين، كان من السهل على رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع غسل ذنوبه السياسية ثم التربّع في الشارع قائداً لسرايا الانتفاضة المقبلة. يومها رفع شعار «نظافة الكفّ» ومشى، رغم أن أيادي الوزير القواتي السابق غسان حاصباني في وزارة الصحة، عملت على تدمير المستشفيات الحكومية لصالح تلك الخاصة والتواطؤ معها في رفع سقوفها المالية، وإذا بها اليوم ترفض استقبال المرضى وتشترط الدولار الطازج لحجز سرير والحصول على علاج. لكن، في الذاكرة الجماعية اللبنانية، تُمحى ذنوب السياسي تلقائياً حالما يخرج من السلطة ولو أنه كان ولا يزال رُكناً أساسياً من أركان تدمير الدولة ومؤسساتها. فؤاد السنيورة مثالاً، قبله رفيق الحريري وبعدهما سعد رفيق الحريري. عوّلت القوات بعد 17 تشرين على ثقب الذاكرة لإعادة تعويم نفسها والانخراط في صفوف المجتمع المدني ضماناً لمكتسبات جديدة في الانتخابات المقبلة. إلا أن طبع قائد معراب الذي يغلب تطبّعه، جعله يخطو سريعاً نحو محاولة مصادرة التحركات وقطع الطرقات و«صبّ الباطون» في الأنفاق، حتى بات عبئاً ثقيلاً على المجموعات التي ابتلعت طُعم حزب الكتائب. رغم ذلك، ولأن القوات بحاجة للعب دور محوري في ما يجري حفاظاً على المكتسبات الخارجية، ارتدت البزة القديمة وانطلقت في مشروع قديم - جديد يقوم على «أمن المجتمع المسيحي وقطع أوصاله عند الضرورة».
في موازاة ذلك، خاضت معراب معركة سياسية شرسة مع ما سمتها «قوى السلطة»، وصوّبت سهامها بشكل مُركّز على التيار الوطني الحر وحزب الله. الأول من ناحية الفساد في ملف الكهرباء، والثاني لناحية سحب السلاح ضماناً للشرعية وإقفال معابر التهريب غير الشرعية المحمية من حزب الله. اشتدّت أزمة المحروقات، فاستشرس رئيس الحزب سمير جعجع أكثر. يريد إقفال المعابر وضبط الحدود ورفع الدعم؛ يستدعي وصاية دولية، يصرخ ليلاً ونهاراً: «لا تتركوا المواطنين اللبنانيين يموتون يومياً على محطات الوقود ومستودعات المازوت والصيدليات». أول من أمس، بلغت حصيلة مداهمات الجيش لمحتكري المحروقات أكثر من مليون و500 ألف ليتر من المحروقات، بينها 400 طن مازوت في منطقة رياق وتعود ملكية هذه الخزانات المطمورة تحت الأرض لشقيق رجل الأعمال القواتي وأحد مموّلي الحزب إبراهيم الصقر، مارون الصقر. تلك الكمية المُحتكرة في لبنان لا خارج الحدود، كان يمكن لها تأمين الكهرباء للمستشفيات والأفران والبلديات والمزارعين. كيف لجعجع أن يُعيّر حزب الله والتيار بعد اليوم بما يرتكبه أنصاره بغطاء سياسي وأمني من قطع الكهرباء المتعمّد عن المواطنين إلى احتكار تلك المواد والمساهمة في تسعير الأزمة لتحقيق أرباح فردية؟ على الأثر، أصدرت الدائرة الإعلامية في القوات بياناً نفت فيها علاقة الصقر بهذه المستودعات، رغم تصريح الأخير لقناة المؤسسة اللبنانية للإرسال بأن المحروقات المصادرة تعود ملكيتها لشقيقه الذي يستخدمها في الأرض، ونفى علاقته بها رغم كونه صاحب محطات وقود موزعة على غالبية الأراضي اللبنانية. وقد سبق للصقر، في عزّ أزمة البنزين، أن دعا القواتيين إلى التعبئة من محطاته مقدماً تسهيلات استثنائية لهم. تخبّط الصقر بتوضيحاته جعلته في بيان آخر، ينفي أي معرفة له بالمنطقة وبأنه لم يزرها من قبل. على الطريق ذاته، نقلت الدائرة الإعلامية في القوات عن الصقر نفيه، ونفت بدورها «ما يتم تداوله جُملةً وتفصيلاً، ووضعته في سياق التعمية على الفريق نفسه الذي تسبّب بأزمات اللبنانيّين ومعاناتهم اليوميّة». كذلك أكدت أنها «كانت أوّل من دعا إلى إقفال المعابر غير الشرعيّة وضبط الشرعية منها، ورفعت الصوت في وجه المهربين، والسماسرة، والمزوِّرين».
«القوات تربح اختبار الأرض رغم استنكار بعض المجتمع المدني للجانب العسكريتاري العنفي»


البروباغندا القواتية في معاكسة الأقوال للأفعال لا تقتصر على هذا الملف، بل تنسحب على كل محطة خاضت فيها القوات معركة سياسية وفشلت، من التمديد للمجلس النيابي إلى إعلان النوايا بينها وبين التيار الوطني الحر، إلى لعبها دوراً أساسياً في إبقاء الحريري معتقلاً في الرياض، إلى أداء وزرائها في الحكومات، وصولاً إلى استقالة وزراء الحزب من حكومة الحريري الأخيرة في 17 تشرين ودعوة جعجع أنصاره في اليوم التالي إلى النزول إلى الشارع. خلال الذكرى السنوية الأولى للانتفاضة كانت كلمة لجعجع قال فيها إن «الكثير من المحتجين لا يريدون للثورة أخذ منحى عنفي، ورأوا أن البعض يستخدم القوة في مواجهة بعض المجموعات في بعض المناطق. لذلك، الناس خرجوا من الشارع». وللمصادفة، لم يكن جعجع يتكلم عن طرف مجهول بل عما ينطبق على أداء أنصاره، أكان عبر افتعال مشكلات مع المجموعات في منطقة الدورة وبيروت، أو استخدام القوة في مواجهة بعض المجموعات التي نظمت مسيرة إلى وسط بيروت مع أهالي ضحايا تفجير 4 آب منذ أسبوعين. عجز القواتيون عن تحمّل سماع شعارات منتقدة لهم ولقائد حزبهم، فانبروا لضرب الناشطين بالسكاكين وإصابتهم بجروح بليغة وبعضهم من القاصرين، وتصويرهم بطريقة مذلّة، كنتيجة طبيعية لما اعتبروه «تعدّي على مناطقنا ومنازلنا. فهل نقف مكتوفي الأيدي؟». ما سبق كان ليكون مفهوماً لو أن القوات لم تجهد في السنوات الماضية لارتداء قناع «العودة إلى الدولة» وحرصها في كل محطة على التذكير بوجوب الاحتكام إلى القانون. لكن بدلاً من اللجوء إلى القوى الأمنية، اختار القواتيون أخذ «ثأرهم» بأيديهم لا سيما أن الحادثة وقعت في منطقة الجميزة التي تصنّفها معراب بأنها «عرين قواتيّ» وبأن بعض الشيوعيين عمدوا إلى ضرب المولوتوف على مركز الحزب؛ بالتالي، بدا «من الصواب» الاقتصاص منهم وضربهم وتبرير ذلك، فيما القوات نفسها خاضت في بداية الانتفاضة حملة لرفض السلوك المماثل لسلوكها من قبل «أحزاب السلطة». لم يكتف جعجع بالدماء التي سالت في الجميزة، بل خرج في اليوم التالي لـ4 آب ليهنئ أنصاره على هذا السلوك الحضاري، ويشيد ضمنياً بضرب أحد القواتيين لمواطن أعزل فقط لأنه طلب منه إنزال العلم الحزبي احتراماً للضحايا... ولأنه بالدرجة الأولى«ينتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي»، أي بالقاموس القواتي، الاعتداء عليه مشروع. سبق هذه الأحداث بأشهر، تعدّي مناصري القوات على سوريين داخل سياراتهم التي تُقلّهم إلى السفارة السورية للاقتراع عند مرورهم في «الشرقية» التي لا تحميها سوى القوات اللبنانية.
في ميزان القوات، حادثة الجميزة وما سبقها وما تلاها، لا تسهم إلا في رفع رصيد معراب لدى «المجتمع المسيحي»، خصوصاً أن «شتم رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل أو رئيس حزب الكتائب سامي الجميل يُقابَل ببسمة، لكن شتم رئيس القوات يقابَل بتعنيف الشاتم وضربه… وذلك يشكّل فرقاً لدى المشاهد والناخب في الانتخابات المقبلة». ففي الخانة الثانية، يرى القواتيون أن الحزب يربح اختبار الأرض رغم استنكار بعض «المجتمع المدني» للجانب العسكريتاري العنفي القواتي، في ظل مداراة للقوات لا تصل إلى حدّ شنّ حملة عليه أسوة بحزب الله والتيار. من ناحيته، يتمسك الحزب بهويته وتنشئة شبابه بالأسلوب عينه، وهو «مدعاة فخر» لا تخجل به القوات، بل ستعرضه قريباً في 5 أيلول المقبل في ذكرى شهداء القوات تحت عنوان: «مقاومة مستمرة». ولأنها القوات، لا حزب الله أو الحزب القومي الاجتماعي، سيمرّ هذا اليوم كأيّ يوم مشمس آخر.