حتى إن وجد الفيول، فإن ذلك لن يحل أزمة الكهرباء. تعثّر الصيانة والتشغيل صار يؤثر مباشرة في الإنتاج. هذا ما يتضح من جرّاء إطفاء شركة MEP، مشغّلة معملي الجية والزوق، لـ 90 في المئة من المحركات، بسبب عدم حصولها على الأموال المطلوبة لشراء قطع غيار وزيوت لا يدفع ثمنها إلا بالدولار النقدي. وتأثير حرمان القطاع من الدولارات لم يتوقف عند المعملين اللذين يؤدي إطفاؤهما إلى تراجع التغذية لساعات، بل طال معملَي دير عمار والزهراني، أكبر مصدرين للطاقة، أيضاً. حيث عمدت كهرباء لبنان إلى تخفيض إنتاجهما، في مسعى لتأخير موعد الصيانات الدورية، التي تقدر كلفتها بنحو 40 مليون دولار. تبقى الباخرتان التركيتان. هما أيضاً تطالبان بـ200 مليون دولار.كل ذلك ظهرت نتيجته أمس، حيث شهد البلد أول انقطاع شامل للكهرباء طال كل المناطق اللبنانية دفعة واحدة واستمر لأكثر من ساعتين. وهذا أمر كان متوقعاً أن يحصل في أي وقت، على قاعدة أن انخفاض الإنتاج، يجعل من الصعوبة ضمان استقرار الشبكة. ما يعني أن ما حصل أمس يمكن أن يحصل كل يوم، طالما أن الحلول الجدية غير متوافرة (تأمين الفيول بالكميات المطلوبة وتأمين الأموال اللازمة لإجراء الصيانة).
إضافة إلى مشغّلي المعامل، لا تبدو الشركات مقدمة خدمات التوزيع أفضل حالاً. هي بدورها تطالب بالحصول على جزء من مستحقاتها بالدولار، بما يضمن تغطية ما تشتريه من خارج البلاد.
كل تلك المطالب وُضعت على طاولة مصرف لبنان منذ أشهر طويلة. اجتماعات عديدة عُقدت بينه وبين وزارة الطاقة. دائماً تكرر الوزارة أن دعم القطاع يسهم في تقليص استهلاك الدولارات لا العكس، فزيادة الإنتاج من قبل معمل المؤسسة يؤدي إلى تخفيض الطلب على الدولار، ففيما يكلف إنتاج الكيلوواط عبر المؤسسة نحو 8 سنتات (على سعر 1500 ليرة، فهو يكلّف نحو 30 سنتاً في المولدات). وصل النقاش حينها إلى طلب المصرف المركزي لائحة من كهرباء لبنان توضح حاجتها للدولار في العام 2021. لكن المفاجأة كانت عندما أرسلت المؤسسة كتاباً يوضح حاجتها إلى ما يقارب 300 مليون دولار، أن المصرف أصدر بياناً، كانت خلاصته رفضه تزويد القطاع بأي مبلغ.
قبل ذلك، كان تم التوصّل إلى دفع مستحقات شركات الخدمات مثالثة، بحيث تحصل على ثلث بالدولار وثلث بالليرة وثلث بالدولار المحجوز في المصارف (أي الدولار الوهمي الذي بات معروفاً بـ«اللولار»). عملياً تم تنفيذ هذا الاتفاق مرة واحدة، قبل أن يتراجع مصرف لبنان، ويقرر الدفع للموردين الخارجيين مباشرة. حتى هذه الطريقة لم تدم لأكثر من مرة أيضاً، إذ أوقف المصرف الدفع بالدولار النقدي تماماً. بقي الأمر على هذا المنوال إلى حين انتهى عقد شركة «برايم ساوث» المشغّلة لمعملي دير عمار والزهراني. حينها عُقد اجتماع في السراي الحكومية برئاسة رئيس الحكومة وحضور حاكم مصرف لبنان، تعهد فيه الأخير البحث في أمر الدفع بالدولار. وبناء عليه، عادت الشركة إلى العمل، ولا تزال.
231 مليار ليرة شهرياً ستدفع الخزينة لتعويض الفارق بين السعر الرسمي وسعر «صيرفة»


في ذلك الوقت، جل ما فعله المصرف المركزي، كان تقليص دعم الدواء والمواد الغذائية، بعشرة ملايين دولار، تم تحويلها إلى قطاع الكهرباء. وبحسب المعلومات، حصلت شركات تقديم الخدمات (BUS و«دباس» و«مراد» وKVA) على 2.8 مليون دولار بالتساوي، مقابل حصول شركة برايم ساوث على 7.2 مليون دولار، فيما لم تحصل MEP على أي مبلغ.
منذ ذلك الحين، أي منذ شباط وحتى اليوم، لم يدفع المصرف أي دولار للشركات، لكن مؤخراً تم الاتفاق على آلية جديدة للدفع، يفترض أن يبدأ العمل فيها قريباً، إذا لم يتم الاعتراض عليها من أي طرف. في الصيغة الجديدة التي لم تعرض على الشركات بشكل رسمي بعد، اتفق على العودة إلى المثالثة، أي دفع الثلث بالدولار والثلث باللولار وثلث بالليرة، لكن هذه المرة على أن يدفع الشق الذي بالدولار على سعر منصة «صيرفة» (12 ألف ليرة مقابل كل دولار). بحسب المعلومات، لم تعترض الشركات مقدمة الخدمات على هذا الحل، فيما لم تتضح الصورة بالنسبة لمشغّلي المعامل. أما مصرف لبنان فرحّب بالأمر لكونه لن يخسر أي دولار من الاحتياطي. وتنص الصيغة على أن تدفع كهرباء لبنان المبلغ على سعر 1500 ليرة للدولار كما جرت العادة، لكن بدلاً من أن يحول مصرف لبنان هذه الأموال إلى الدولار سيحوّل المبلغ للشركات على سعر منصة صيرفة، أي 12 ألف ليرة حالياً، مع تسجيل الفارق كدَين على الحكومة، أي بما يجعل مصرف لبنان غير مضطر لتسجيل أي خسائر بالليرة في سجلاته. لكن كيف يمكن للخزينة أن تتحمل هذه الكلفة الإضافية من دون أي قانون؟ تؤكد مصادر مطلعة أنه لم يتضح بعد ما إذا كان ذلك سيتم بإقرار قانون اعتماد استثنائي أم أنه سيتم الاكتفاء بقرار استثنائي يوقعه رئيسا الجمهورية والحكومة. لكنها تشير إلى أنه عندما يتم الاتفاق لن يكون القانون عقبة!
هذا القرار سيؤدي عملياً، بحسب الشركات، إلى زيادة عرض العملة في السوق. فعلى سبيل المثال، يقدر المبلغ الذي يفترض أن يدفع شهرياً، من دون احتساب المستحقات السابقة، نحو 22 مليون دولار نقداً (شركات تقديم الخدمات نحو 15 مليون دولار، «برايم ساوث» نحو 5 ملايين دولار و«أم أو بي» نحو 2 مليون دولار)، ما يعني دفع ما مجموعه 264 مليار ليرة شهرياً، ستتكفل الخزينة بـ231 مليار ليرة منها. ولأن الشركات ترفع الصوت للحصول على الأموال بالدولار لدفع ثمن المعدّات المستوردة، فإن أي مبلغ ستحصل عليه بهذه الطريقة، سيُعاد تحويله إلى الدولار، بما يعني زيادة الطلب عليه.
لكن ما الذي جعل وزارة المالية ووزارة الطاقة تتجهان إلى هذا الخيار؟ إضافة إلى الحاجة إلى تسديد مستحقات الشركات لتتمكن من الاستمرار في عملها، فإن ثمة تخوفاً من أن ترفض كل هذه الشركات تجديد عقودها التي تنتهي في نهاية العام. ولذلك، قبل الخوض في تمديد العقود، تتطلع الحكومة لإيجاد أرضية مستقرة لتسديد الفواتير، إدراكاً منها أن الشركات لن توافق على الاستمرار، إذا لم تُحلّ مشكلة المدفوعات.