«وقال: إذا متّ قبلكَ
أوصيك بالمستحيل
سألت:
هل المستحيل بعيدٌ؟
فقال: على بعد جيل
سألت:
فإن متّ قبلك
قال: أعزّي جبال الجليل
وأكتب: ليس الجماليّ إلا بلوغ الملائم
والآن، لا تنسَ
إن متّ قبلكَ
أوصيك بالمستحيل»

«طباق»
من نصّ كتبه محمود دروش عن إدوارد سعيد


لم يكن تحرير عام 2000 حدثاً عادياً. حتى الذين كرهوه نكاية بكيفية حصوله، وعلى يد من، تصرّفوا منذ ذلك التاريخ على أنه أمر مختلف، ومثّل التحدي الجديد عند جيل من المثقفين العرب الذين تعرّف إليهم العالم بسبب ارتباط إنتاجهم بقضية فلسطين. حتى من نجح منهم في علومه الخاصة أو دروسه أو إنتاجه التخصّصي، لم يكن ليسطع نجماً إلا متى ارتبط فعله بقضية فلسطين. ليست النجومية هنا هدفاً بحدّ ذاته، أو امتيازاً إضافياً لا يعيش الإنسان من دونه. لكنّ قيمة هذه النجومية، المرتبطة باسم فلسطين، تكمن في كون القضية نفسها مثّلت، ولا تزال، أكثر تحديات الإنسان في عصرنا الحديث. فليس سهلاً على فتى أو طالب أو عامل أو مؤرّخ أو شاعر أو مسرحيّ أو طبيب أو أب أو أمّ، أن يكون حيادياً إزاء ما يحصل. إذ يوجد الآن، على هذه الكرة الأرضية، ناس لهم أرضهم واسم لبلدهم، لديهم العلم والخارطة، لديهم السماء والهواء والمياه والأرض، لكن، ليست لديهم دولة وحق الاستقلال وتقرير المصير.
في تلك الأيام، قبل عشرين عاماً، كان الجميع يحتفل بانتصار شكّل يقظة لم تكن في حساب أحد. لا في حساب العدوّ ولا في حساب كثيرين من أهل الأرض. كان التحرير جواباً حاسماً على السؤال الكيدي المكثف حول جدوى المقاومة. وكان الحدث يومها حاسماً لكل نقاش حول قدرة شعب على تحرير أرضه ونفسه بتضحيات تراكمت على شكل قصص من دماء ودموع، قبل أن تُثمر طرداً للاحتلال. وكان الحدث خاصاً لأنه نتاج فعل قام به ناس من أبناء هذه الأرض، وصار الجميع ينظر إليه كعلاج للمرض العضال الذي لا اسم له سوى: إسرائيل!
لأشهر عدّة، تحوّل جنوب لبنان محجّةً لمئات الألوف، من لبنانيين وعرب، فلسطينيين على وجه الخصوص. كانت النسوة كما الآباء ومن خلفهم الأبناء والأحفاد جميعهم يلتصقون بالشريط الشائك على طول الحدود. يُمرّرون الأصابع والخدود لملاقاة بقيّتهم الذين لم يغادروا الأرض أصلاً. كانوا يشعرون بحرارة اللحظة، ولكنهم كانوا يشعرون بحقيقتها، وبأن النظر إلى فلسطين لن يبقى على شكل صورة أو لوحة. بل صار ممكناً أن يكون هو الواقع لا المتخيّل.
ظلّ الأمر على هذا النحو لأعوام عدة، إلى أن جاءت نكبة 11 أيلول وما تلاها من ويلات تسبّب بها طغاة العالم باسم الحرية وحقوق الإنسان. وزاد كل ذلك من وطأة القهر العربي. ومع ذلك، فإن العدو كان مسكوناً بحدث لبنان. وكان أول من أظهر خشية كبيرة من انتشار عدوى لبنان إلى جواره الجنوبي. لكن في قلب فلسطين، كان هناك من التقط الإشارة، ورفع من سقف صوته إلى أعلى من ضجيج الاحتلال. وكانت الانتفاضة الثانية التي اختار فيها ياسر عرفات طريقاً آخر غير أوسلو، حتى تقرّر اغتياله.
بين صيف عام 2000 وحصار أبو عمار في المقاطعة، زار لبنان اثنان يمثّلان، كلٌّ من موقعه، جانباً من الذاكرة النضالية للشعب الفلسطيني داخل الأسوار وخارجها. إدوارد سعيد ومحمود درويش. كان الرجلان يعرفان أن الاحتفال بالتحرير له كلفة. لم يتأخر إدوارد سعيد عن الذهاب إلى الحدود ورمي الحجر – القنبلة على جنود الاحتلال. بينما وقف محمود درويش، في ملعب المدينة الرياضية في بيروت، يعيد إسماع من لم يسمع، بأن فلسطين ليست اسماً على ورقة أو عنواناً لفيلم خيالي.
خلال رحلتيهما المتباعدتين لنحو عام أو أكثر، طلب الرجلان التعرف إلى قائد «الغرباء» الذين نجحوا في إنهاء الاحتلال. كانا مثل كثيرين لا يصدقون أن بيننا من يقدر على هزيمة الاحتلال. كانت مقاومتهما لمعركة كيّ الوعي قاسية جداً. لكنهما كان يتعبان أحياناً كثيرة. وعندما تلمّسا حجارة الطريق المفتوحة إلى فلسطين، طلبا زيارة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. زاره إدوارد سعيد ومحمود درويش، كلٌّ على حدة. وكان الرجل متهيباً للقاء من يعرف أنهما يمثلان صفحات كبيرة في ذاكرة فلسطين. وكان اجتهد في التعرف إلى إنتاجهما، لكنّ اللحظة العاطفية استولت على الاجتماعين، وتمثّلت ليس فقط في اكتشاف أنهما أمام رجل يشبه أهل المدن والقرى التي عاشوا فيها وطُردوا منها. بل تمثّلت في حيرة سكنت معالم وجهيهما طوال الوقت. كانا ينظران إليه بعين الباحث عن سرّ يعرفان بوجوده في كل فرد فينا. وظلّا يعبثان في الكلام معه كطفل يريد أن يسمع كبيراً من حوله يقول له ما يجعله ينام مطمئناً إلى غده. وكان سؤالهما الصدمة: وماذا بعد؟
لم يكن السيد حسن بخيلاً في شرح مقاصد نضاله ورفاقه. ولم يكن ليحتال على أحد في ما خصّ الرحلة الطويلة التي يؤمن هو ورفاقه بأنها واجبهم الدنيوي. وكان يبتسم ويجيب بصوت هادئ وحاسم: سنُزيل إسرائيل من الوجود!
لم تنته حكايتهما عند انتهاء اللقاء. عاد الصخب إلى كل ما يشعران به، خفقان مختلف للقلب ودورة جديدة في العقل. وحوار ظلّ بينهما حول ما حصل. تحدّثا سويةً عن زيارة لبنان ولقاء نصرالله. تحدّثا بصوت خافت، كان كلٌّ منهما يريد مفاجأة الآخر بخبر خاص، فوجده في انتظاره. لكنّ النقاش بينهما، أخذهما إلى مكان آخر، أخذهما إلى حيث السؤال - التحدي: هل صحيح ما قاله الرجل... هل نحن على وشك تحقيق المستحيل؟
ظلّت الأيام تطوي تفكيراً عميقاً، بالتزامن مع معركة أقسى واجهها الرجلان مع القدر. أمراض قاتلة أودت بهما في نهاية المطاف. تعاركا مع أنفسهما في معركة الحفاظ على معنى الوجود حيث هما، على معنى تقديم فكرة المستحيل على أي شيء آخر. لم يكن سهلاً عليهما معايشة فكرة تعيدهما عقوداً إلى الخلف، تجعلهما يعودان إلى سنوات الشباب الأولى. لم يكن القهر العالمي قليلاً معهما. ومع ذلك، حاول كلّ منهما رسم صورته على طريقته. أخطأ من أخطأ وأصاب من أصاب. لكنّ سر السؤال، لم يكن ممكناً طيّه إلى الأبد، فوجد محمود درويش في نصه «طباق» ما يروي فيه حكايتهما السرية بكل رموزها. لكنّها لم تكن أحجية غير قابلة للحل. بل كان محمود درويش، مجتهداً في استخدام المهارة لكسب حظّ الوحي بأن الضوء متاح... أليس هو من قال: الوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ!
اليوم، سيكون صعباً على كثيرين فهم وإدراك حقيقة «أحد عشر يوماً» عاشها العالم مع فلسطين في أيار الماضي. ومن لا يتمعّن في وجوه الصهاينة، جنوداً ومستوطنين وإرهابيين، فسيكون من الصعب عليه تلمّس حجم الهزيمة التي دخلت إلى تفاصيلهم اليومية، والتي ستنخر جسد هذا الكيان ولن تنفع كلّ أمصال الأرض في إنعاشه.
اليوم، سيكون من الصعب على كثيرين ممن قرّروا أنهم تعبوا أو أصابهم سأم التضحية والانتظار، أن يفهموا معنى التحوّل الكبير الذي يصيب عالمنا العربي، حيث الحقيقة الوحيدة التي تقضّ مضاجعهم، كما تُقلق الطغاة، هي حقيقة أن المقاومة ليست قدراً كالاحتلال، بل قدرة على احترام الوصية، وتحقيق المستحيل... ولو على بعد جيل!