يقوم النظام البرلماني على التعاون والتوازن بين السلطتَين التشريعية والتنفيذية، تتعاون السلطتان في مجال التشريع الذي يصدر حصرًا عن البرلمان، وتقوم السلطة التنفيذية بتنفيذ هذا التشريع تحت رقابة البرلمان. للبرلمان مراقبة السلطة التنفيذية وسحب الثقة من رئيس الوزراء، أو أي من الوزراء أو الحكومة مجتمعةً، ويجوز للسلطة التنفيذية أيضًا، ضمن شروط معينة، حل مجلس النواب.نصّت الفقرة الثانية من المادة 64 من الدستور اللبناني، بعد تعديلات 21/9/1990 على ما يأتي: «لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة، ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال». عندما تستقيل الحكومة تصبح غير خاضعة لمساءلة مجلس النواب لناحية حجب الثقة، وتتحول الى حكومة تصريف أعمال تقوم بكل الأعمال العادية الجارية التي من صلب موجباتها الإدارية والصحية والأمنية والاجتماعية والتي تشكل أداة لاستمرارية المرفق العام، في حين تسقط الصلاحيات السياسية التي تلزم الدولة على المدى المتوسط والطويل وهي تخضع في النظام البرلماني لمساءلة مجلس النواب. بقبول الاستقالة أو باعتبار الحكومة مستقيلة، تسقط الصلاحيات السياسية، وتبقى الموجبات المرتبطة بتأمين سير المرافق العمومية.
إن الحكومة المستقيلة تصبح خارج رقابة مجلس النواب، لناحية أدوات الرقابة الآيلة الى حجب الثقة، الا أن رقابة المجلس لا تسقط بكاملها. فليس ما يمنع استجواب أو سؤال وزير في حكومة تصريف الأعمال، في سبيل جلاء الحقيقة وحتى التقرير بشأن اتهام رئيس الحكومة ووزرائها المنصوص عليه في المادة 70 من الدستور اللبناني، في حال ارتكاب الخيانة العظمى أو الإخلال بالموجبات المترتّبة على الوظيفة. في مطلق الأحوال، تبقى الرقابة القضائية على أعمال الحكومة التي يمارسها القضاء الإداري للتأكد من التقيّد بموجبَي المشروعية وحدود تصريف الأعمال.
غياب الرقابة السياسية العادية للبرلمان على حكومة تصريف الأعمال، من شأنه أن يرسم الحدود للأعمال التي لا يمكن لحكومة تصريف الأعمال القيام بها، وهي الأعمال السياسية أو المالية أو الإدارية أو الاقتصادية التي تكون متاحة بشأنها خيارات متعددة، ويجب أن تخضع لرقابة ومساءلة مجلس النواب، ولا يمكن إلزام أيّ حكومة مستقبلية بشأنها، وهي تنطوي في الغالب على التزامات سياسية ومالية جديدة، بطبيعة الحال، يمكن تأجيلها الى الحكومة اللاحقة.
تعود جذور نظرية تصريف الأعمال الى مبدأ أساسي في القانون العام، هو مبدأ استمرارية المرافق العمومية. المبدأ الذي أنزله الاجتهاد الفرنسي منزلة الدستور. فالمرافق العمومية وُجدَت لتأمين حاجات ومتطلبات العموم، ما يوجب عليها الاستمرار في العمل بانتظام. ليس أبلغ أو أدلّ من أهمية هذا المبدأ ذي القيمة الدستورية، إقرار الاجتهاد الإداري بأنه إذا كانت هنالك هيئة موجودة على رأس مرفق معيّن لإدارته وتأمين انتظامه وحسن سير العمل فيه، فإنها تستمر في عملها رغم انتهاء ولايتها الى أن يتم تعيين من يحلّ مكانها.
لا يمكن لاستقالة الحكومة أن تؤدي الى شلل في الحياة اليومية الاقتصادية والاجتماعية للمواطن، وفقًا لاجتهاد مجلس شورى الدولة المستقرّ منذ زمن طويل، ما قد يستلزم استمرارية العمل الحكومي بالحد الأدنى، بما فيه اجتماع حكومة تصريف الأعمال. فالنص الدستوري الوارد في الفقرة الثانية من المادة 64 لم يتحدث عن استمرار الوزراء في التصريف الضيّق للأعمال، بل الحكومة المستقيلة أو المعتبرة مستقيلة، وهناك سوابق معلومة في هذا المجال (أقرت حكومة الرئيس رشيد كرامي المستقيلة مشروع الموازنة لسنة 1969، وسنة 1979 اجتمعت حكومة الرئيس سليم الحص المستقيلة وأقرّت مجموعة مشاريع القوانين المستعجلة، وسنة 2013 أقرت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المستقيلة تشكيل الهيئة العامة للإشراف على الانتخابات).
حكومة تصريف الأعمال خاضعة لمراقبة مجلس النواب... وللاتّهام عند الاقتضاء


صنّف مجلس شورى الدولة في لبنان منذ عام 1969 أعمال الحكومة إلى ثلاث فئات: الأعمال الجارية اليومية العادية وهي من صلب موجبات حكومة تصريف الأعمال كما الحكومة العادية، الأعمال التصرفية التي تتعلق بفتح اعتمادات هامة أو التصرف بها أو وضع الخطط السياسية والاقتصادية الطويلة والمتوسطة الأجل، وهي لا تدخل في صلاحيات حكومة تصريف الأعمال، والأعمال والتدابير اللازمة في مواجهة الظروف والأزمات الاستثنائية والتي يقتضي مواجهتها من حكومة تصريف الأعمال كما من الحكومة العادية ومن أي مواطن.
لا ينازع أحد في عدم صلاحية حكومة تصريف الأعمال لوضع الخطط والبرامج وتوقيع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وهي في صلب نهج الحكومة السياسي والاقتصادي الذي لا يمكن أن يحصل في غياب الرقابة البرلمانية الكاملة، ولا يمكن لحكومة مؤقتة على غرار حكومة تصريف الأعمال أن تلزم الحكومات اللاحقة به، لأن مثل هذه الأفعال هي نتيجة لعمل سياسي برلماني حكومي مشترك يتوزع طرفاه الرقابة والتنفيذ. كما قد تواجه الحكومة العادية غير المستقيلة او المعتبرة مستقيلة ظروفًا استثنائية، كذلك فإن هذه الظروف الاستثنائية قد تواجه حكومة تصريف الأعمال وهي تتطلّب أعمالًا طارئة وملحّة لارتباطها بالسلامة العامة والأمن الصحي والاجتماعي والاستقرار الاقتصادي، الأمر الذي يستلزم اتخاذ إجراءات عاجلة وسريعة، تحت طائلة تهديد ركائز الدولة وأمنها وصحة مواطنيها. إن مواجهة هذه الظروف تعدّ موجبًا وطنيًا تسأل حكومة تصريف الأعمال عن الإحجام عن القيام به، دون أن يشكّل ذلك تجاوزًا لتصريف الأعمال بالمعنى الضيق.
إن حصول مثل هذه الظروف يحتّم على حكومة تصريف الأعمال المبادرة إلى مواجهتها بأسرع وقت ممكن، وهذا ما كرّسه الاجتهاد الإداري الفرنسي. فالأزمة المالية، الصحية، الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد تعطي حكومة تصريف الأعمال شرعيةً استثنائية في مواضيع الأزمة المالية، الصحية، الاقتصادية، الاجتماعية، وتوجب عليها اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة هذه الظروف، إن لناحية عقد جلسات لمجلس الوزراء، أو لناحية تأمين الموارد المالية من خلال إقرار مشروع الموازنة اللازمة وإن من دون خطط وبرامج، أو تأمين الموارد الغذائية والصحية للبلاد والعباد.
حدود هذه الصلاحية الدستورية الاستثنائية ما هو ضروري ولازم وملحّ لمواجهة آثار الأزمة، وإن كان في الظروف العادية لا يدخل في المعنى الضيّق لتصريف الأعمال، فمن المتفق عليه فقهًا واجتهادًا أن الظروف الاستثنائية تخلّف شرعية استثنائية لبعض الأعمال التي لا تعتبر مشروعة في الظروف العادية، ويعود للقضاء الإداري تقدير الموقف لأن هذه الظروف وبمقدار خطورتها يتحدّد مدى مواجهتها، ويسقط تبعًا لذلك المفهوم الضيّق ويتّسع ليشمل التدابير التي لا يمكن مواجهة الأزمات بدون اتخاذها، كما يعود للسلطة التشريعية تقدير ما إذا كان عدم القيام بهذه التدابير يشكّل إخلالًا بالموجبات يقتضي ممارسة حق الاتهام المنصوص عليه في المادة 70 من الدستور اللبناني.
لا مفاعيل لقبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة لناحية مواجهة الشأن اليومي الإداري، الصحي، الاجتماعي، الأمني، الدفاعي، وأمور الأزمات الوطنية والصحية والاقتصادية الملحّة، ولا تعفى الحكومة من هذه الموجبات إلا بصدور مراسيم تشكيل الحكومة الجديدة وقبول استقالة حكومة تصريف الأعمال أو اعتبار الحكومة مستقيلة. وغير ذلك من التفسيرات والتوضيحات والاجتهادات لا ينطلق من مبدأ الحوكمة وضرورة استمرار سير مرافق الدولة والحفاظ على كيانها والدفاع عن وجودها. كما أن الأخذ بنظريات معاكسة يطرح للبحث الدستوري مسألة حصانة رئيس وأعضاء حكومة تصريف الأعمال في فترة تصريف الأعمال. فهل يعقل أن نصل الى معادلة الحصانة مقابل اللامسوؤلية.
* المدير العام لإدارة المناقصات



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا