في مصرف لبنان، وحدة إخبار مالي يرأسها رياض سلامة، وتدعى «هيئة التحقيق الخاصة». ارتبط اسم الهيئة بتجميد حسابات المودعين الذين تتهمهم الإدارة الأميركية بـ«تمويل الإرهاب». ورغم أن نطاق عملها كبير جداً، ويشمل الفساد بمعناه الواسع، لكنّ عائقين حالا دون تحرّكها: عدم قيام القضاء بواجباته عبر تحويل ملفات جدّية إليها، نظراً الى أنه لا يمكن لها التحرّك من تلقاء نفسها، ووقوف رئيسها، حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، في وجه كل ما يمسّ بمصلحة أصحاب النفوذ والثروات. لكن لأن دور الهيئة محوري في قوانين مكافحة الفساد المقدمة أخيراً، تقدمت كتلة الوفاء المقاومة باقتراح قانون لتعديل تركيبة الهيئة، يُبعد حاكم مصرف لبنان عن رئاستها تحقيقاً لاستقلاليتها ومنعاً للتضارب في المصالح
لطالما اقترن «صيت» هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان بتجميد حسابات لمودعين، بناءً على أوامر أميركية، تحت مسمى مكافحة «تبييض الأموال وتمويل الإرهاب». وهي في ذلك تقوم بواجبها وأكثر. الا أنه عندما يتعلق الأمر بأموال المودعين وتحويل الأموال إلى الخارج وتسريع الانهيار، يرفض رئيس الهيئة، أي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، المسّ بمصالحه ومصالح السياسيين والمصارف. الحجة هنا ليست غياب الصلاحيات، نظراً الى أن التعديلات التي أُدخلت على القانون الرقم 44 الصادر بتاريخ 24/11/2015 منحت هذه الهيئة صلاحيات واسعة للتحقيق في كل ما يندرج تحت عنوان «الأموال غير المشروعة». عبارة تحدد مفهومها المادة الأولى من القانون، والتي تتحدث عن الجرائم المالية، بدءاً بزراعة أو تصنيع أو الاتجار غير المشروع بالمخدرات مروراً بتمويل الارهاب، وصولاً الى الفساد، بما في ذلك «الرشوة وصرف النفوذ والاختلاس واستثمار الوظيفة وإساءة استعمال السلطة والإثراء غير المشروع والسرقة وإساءة الائتمان والاختلاس والاحتيال، بما فيها جرائم الإفلاس الاحتيالي». ما سبق يمنح هيئة التحقيق الخاصة دوراً مهمّاً، محلياً ودولياً، خصوصاً في ظل الانهيار الاقتصادي وما لحقه من عمليات غشّ وفساد تتعلق بالمصارف والسياسيين، ومن هم في موقع سلطة. إلا أن دورها معطّل، أقله محليّاً، لسببين:
1- لأن رئيسها هو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
2- لا يمكنها التحرك من تلقاء نفسها، بل بقرار من سلامة أو بطلب من جهات دولية أو تلقّي بلاغات وطلب استقصاء من المدعي العام التمييزي في لبنان.
مدخل الهيئة الى أي تحقيق في أي مسألة، ومنها الأموال الناتجة عن عمليات فساد وتلك المحوّلة الى الخارج، هو القضاء. وحتى الساعة، لم يقدّم ملف قضائي «مُبكّل يُحرج الهيئة ويجبرها على التحرّك»، على ما تقول مصادر مطلعة. إلا أن ذلك لا يعني استجابة الهيئة لطلبات القضاء، فثمة تجربة في هذا الشأن غداة 17 تشرين، عندما وجّه النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسان عويدات كتاباً الى هيئة التحقيق يطلب فيه تزويده بأسماء الأشخاص الذين أجروا تحويلات من حساباتهم في ​المصارف​ اللبنانية إلى الخارج، ما بين 17 تشرين الأول 2019 و31 كانون الأول 2019 (حُكي يومها عن 7 مليارات دولار). امتنعت الهيئة عن التجاوب مع الطلب، مشيرة الى أن جميع المصارف التي نفّذت التحاويل الى الخارج في هذه الفترة أفادت بعدم وجود أي شبهة في العمليات أو في مصدر الأموال المودعة في الحسابات. اقتنعت الهيئة بأجوبة المصارف، وأعلنت التعذّر - قانوناً - عن اتخاذ أي قرار بخصوص هذه الحسابات أو الطلب من المصارف تزويدها بالأسماء.
رفض سلامة دعوة الهيئة الى الاجتماع لرفع السرية المصرفية عن الهبات المصروفة من الدولة


قبيل ذلك، وجّه «نادي القضاة» رسالة الى الهيئة طالباً التجميد الاحترازي لحسابات كل السياسيين والموظفين الكبار والقضاة وكل من يتعاطى الشأن العام وشركائهم والمتعهدين، من دون أن تتجاوب مع الطلب. لكنها في المقابل جمّدت أرصدت 7 مسؤولين حاليين وسابقين يعملون في الجمارك وإدارة مرفأ بيروت ورفعت السرية المصرفية عن حساباتهم، بناءً على تقرير من أمينها العام والنيابة العامة التمييزية، بعد انفجار المرفأ (4 آب 2020).
يلفت النائب السابق غسان مخيبر أن الشكاوى المقدمة الى الهيئة يجب أن تكون مكتملة ومبنية على قرائن حتى تأخذ بها. فالهيئة ليست ضابطة عدلية، بل مكتب فنيّ للاستقصاء المالي على الحسابات المصرفية. وهي الجهة الوحيدة المخولة رفع السرية عن الحسابات وحجز الأموال داخل لبنان وخارجه، وتلعب دوراً محورياً في آلية استعادة الأموال المنهوبة: «إذا كانت الهيئة لا تقوم بدورها، فذلك لأن هناك قضاء لا يقوم بدوره. إن لم يُحَل اليها ملف جدّي مبني على قرائن ومستندات ووثائق، ليس الحق عليها». من جهة أخرى، يرى مخيبر أن هناك «تضارباً في المصالح، لأن من يرأسها هو حاكم مصرف لبنان، فيما يفترض أن تكون مستقلة، ومسألة ترؤس الحاكم لها لا يمنحها مستوى الاستقلالية المطلوب».
هذا التضارب برز بشكل فاضح أخيراً مع ملاحقة سلامة في سويسرا بعمليات فساد. كيف يمكن له أن يكون الحكم في قضايا الفساد وهو المشتبه فيه بها؟ يسأل مخيبر، علماً بأن سلامة وقف مرات عديدة حائلاً دون إكمال الملفات القضائية طريقها الى هيئة التحقيق التي يرأسها. ففي ملف الحسابات المالية، برزت هبات صرفتها الدولة من دون أن تُحدّد وجهة صرفها. جرى تقديم الملف الى المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم الذي يشغل أيضاً منصب عضو في الهيئة. توجّه إبراهيم بطلب لرفع السرية المصرفية عن هذه الأموال، فرفض حاكم مصرف لبنان دعوة الهيئة لرفع السرية، لأن هذه الأموال وُضعت في حساب خاص في مصرف لبنان. وطبعاً ليس من مصلحة الحاكم الكشف عن طريق صرفها ومن استفاد منها.
ما سبق، دفع بكتلة الوفاء للمقاومة الى تقديم اقتراح قانون الى مجلس النواب يتعلق بتعديل المادة السادسة من قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب الرقم 44/2015 لتحقيق استقلالية الهيئة عبر نزع رئاستها من يد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أو أي حاكم سيليه. وينص التعديل في مادته الأولى على إلغاء نص الفقرة الأولى من المادة السادسة من القانون الذي يحدد أعضاء الهيئة بـ«حاكم مصرف لبنان رئيساً، قاض معين في الهيئة المصرفية العليا عضواً، رئيس لجنة الرقابة على المصارف عضواً، وثالث يعينه مجلس الوزراء بتوصية من الحاكم»، واستبداله بالنص التالي: «أحد القضاة من بين رؤساء غرف التمييز الحاليين أو السابقين، ويعيّن بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء بناءً على اقتراح مجلس القضاء الأعلى، رئيساً؛ رئيس لجنة الرقابة على المصارف عضواً، عضو أصيل وعضو رديف يعيّنهما مجلس الوزراء على أن تتوافر لديهما خبرة لا تقل عن 15 عاماً في مجال القانون المالي والمصرفي، عضو أصيل وعضو رديف يعيّنهما مجلس النواب، على أن تتوافر لديهما خبرة لا تقل عن 15 عاماً في مجال القانون الدولي أو حقوق الإنسان، أحد نواب حاكم مصرف لبنان، يُعيّن بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء بناءً على اقتراح الحاكم».
أما الأسباب الموجبة لهذا الاقتراح، فتضمنت «تفعيل الهيئة وإعادة تشكيلها وفقاً للمعايير الدولية، ممّا بات أمراً مُلحاً وضرورياً، ولأسباب تتعلق بمنحها مركزاً قانونياً مستقلاً بشكل لا لبس فيه، ولأن الأزمة المالية الحالية تتطلب وجود هيئة قادرة على استعادة الأموال المهرّبة والمنهوبة لتعزيز الخزينة العامّة بإيرادات هي بأمسّ الحاجة اليها». فمتطلبات الاستقلالية وتجنب تضارب المصالح «لا تستقيم بتشكيل أعضائها من المؤسسات المالية والمصرفية ذات الصلة، ما يجعلها خاضعة من حيث العضوية والسلطة المالية للمصرف المركزي».
النائب حسن فضل الله، أحد المشاركين في وضع هذا الاقتراح، يرى أن «الوضع المستجدّ في البلاد ورزمة قوانين مكافحة الفساد المقدمة، يتطلبان دوراً أساسياً من الهيئة». لذلك، «لم يعد جائزاً أن تبقى بحالتها الراهنة، خصوصاً مع تضارب المصالح بين دورها وطريقة تشكيلها وإدارتها». وهو ما استدعى تطوير هذا القانون لتعزيز صلاحياتها وقدرتها على المساهمة في مكافحة الفساد.
هذا الاقتراح ضروري لتأمين استقلالية الهيئة عن السلطة النقدية، ذات الصلاحية «الفرعونية» في القطاع المصرفي. لكن، من المرجّح ألا يُبصر النور على شكل قانون، لأن الهيئة، بموجبات تأسيسها، هي وحدة من وحدات الإخبار المالي الكثيرة التابعة لمجموعة العمل المالي GAFI. تختلف أسماء هذه الوحدات في البلدان، واسمها في لبنان «هيئة التحقيق الخاصة»، ما يعني أن ارتباطها مقترن بالهيئات الدولية، ورئاستها لن تذهب حكماً الى من لا تعتبره هذه الهيئات في دائرة «الأصدقاء الأوفياء». وبكلام أوضح، هذه الهيئة هي واحدة من الأدوات السياسية التابعة للنظام المالي الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية. وهذه الأخيرة ستجنّد أصدقاءها وأتباعها في السلطة، لخوض معركة تحت عناوين سياسية وطائفية ومالية واقتصادية... بهدف منع تحويل «هيئة التحقيق الخاصة» إلى جهاز فعّال لمكافحة الفساد في لبنان.