كلما شاع اقتراب التفاهم والاتفاق على تأليف الحكومة وموعده، ارتفعت في وجهها الشروط وأضحت أبعد منالاً. في أبسط ما يقال، كل حكومة هي حكومة مهمة ولا شيء سوى ذلك، لأنها وظيفتها بالذات، ومبرّر تأليفها ما دامت تمثّل سلطة إجرائية يقتضي أن تعمل. كذلك لا أحد يسعه الجزم بمدة محددة ينتهي معها عمر حكومة ودورها ما لم تكن أمام سببين مباشرين طبيعيين للتنحي: استقالة رئيسها أو حصر مهمتها بإجراء انتخابات نيابية عامة على أثرها تصبح في حكم المستقيلة. أما الطامة الكبرى، فأن تكون حكومة اختصاصيين على رأسها غير اختصاصي أولاً، غير مشهود له بالإنجاز ثانياً. قبل التكليف الحالي، جُرِّب الرئيس سعد الحريري في حكومات ثلاث انتهت بالخيبة. كل منها كفيلة بعدم تكرار التجربة والرجل:أولى عام 2009، انفجرت عندما أسقطها وزراؤها معارضوه من الداخل، بعدما انقطعت عن الاجتماعات. أول المسؤولين عن هذا السقوط رئيسها بالذات، عندما منح خصومه فيها صلاحية دستورية إجرائية موازية لصلاحيته هو الدستورية المدوّنة، بمنحهم نصاباً موصوفاً يتيح إطاحتها. ففعلوا. كان ذلك ثمن وصوله إلى السرايا، رغم أنه زعيم الغالبية النيابية.
ثانية عام 2016، لا تزال إلى الآن تحمل لعنة التسوية الرئاسية وكل ما ترتب عليها، بدءاً بمحاصصة التعيينات الإدارية والدبلوماسية والقضائية، وتقاسم الفساد والسيطرة على المقدّرات ونهب المال العام، مروراً بتجديد ولاية حاكم مصرف لبنان والهندسات المالية التي أجراها وأُولاها انتشال مصرف رئيس الحكومة من القعر ومدّه بالمال لإنقاذه، ما اضطره إلى ضخّ أموال طائلة مماثلة على مصارف أخرى، ذهاباً إلى إقرار سلسلة الرتب والرواتب لرشوة الناخبين. فإذاً حكومة 2016 تتحمّل القسط الأوفر من مسؤولية الانهيار النقدي والاقتصادي.
ثالثة عام 2019، أسقطها الحراك الشعبي بينما تذرّع رئيسها بأنه استجاب لإرادته، ثم أضحى يعثر في نفسه على نفسه المخلّص. في التكليف الأخير للرجل، ليس ثمة ما يبعث على الاعتقاد أنه بات أكثر نضجاً، وأكثر اختصاصاً في إنقاذ كل ما انهار، ولا بدا يتخلّص من الطبقة السياسية التي لا يزال أحد رؤوسها. ما بين أولى حكوماته وآخرها، فقد الإمبراطورية السياسية والمالية الضخمة التي أورثه إياها والده الراحل، وأوصلت الأب نفسه إلى رئاسة الحكومة. أهدر الابن الخلف كنزها الأهم، ومصدرها الذي هو ظهيره السعودي. فإذاً العودة إلى السرايا تمثّل وحدها آمال البقاء. يريد الرجل الذي أضاع اقتصاد شركات ناجحة مدرارة، إنقاذ اقتصاد دولة موشكة على الانهيار في الأصل.
لا تعدو المشاورات الجارية لتأليف الحكومة، في العلن والسرّ، سوى استمرار في عضّ متبادل للأصابع: بين الحريري ورئيس الجمهورية ميشال عون، وبينه وحزب الله، وبينه ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل. لكل من الأفرقاء الثلاثة هؤلاء مقاربة مختلفة عن الرئيس المكلف في التعامل مع تأليفها. لا أحد يتزحزح عن شروطه التي تتجدّد يوماً بعد يوم. لا الحريري في وارد الاعتذار، وهو بالكاد أعاد نفسه إلى واجهة الحدث بعد ضمور. لا رئيس الجمهورية بدوره على استعداد للتسليم سياسياً بتداعيات العقوبات الأميركية الأخيرة على باسيل، ولا بالتخلي عن صلاحياته الدستورية في توقيع مرسوم حكومة تنتقص منه في السنة الخامسة من الولاية كل ما حازه منذ السنة الأولى. لا حزب الله في صدد الموافقة على استبعاده عن المشاركة في الحكومة وإصراره على تسمية وزرائه، مضافاً تضامنه مع باسيل بكل ما يترتب عليه من شروط، لئلا يُستنتج تخاذله أمام مفاعيل العقوبات الأميركية.
شغورا 2007 و2014 يضعان الحريري أمام أحد خيارَي حكومتَي السنيورة أو سلام


قاسم مشترك واحد يجمع الحريري وشركاءه هؤلاء في الخفاء، يُظهرهم غير مستعجلين تأليف الحكومة إلا بالشروط القصوى لكل منهم، مع أن الحريري يريد في أسرع وقت التخلص من تجربة الرئيس حسان دياب وحكومته. يكمن القاسم المشترك في افتراضهم أنهم - لا الرئيس المكلف وحده - يؤلفون حكومة نهاية الولاية التي دخلت في سنتها الخامسة. لذا يتصرّف الحريري كما الشركاء الآخرون على أنهم أمام استحقاق يتوقّعون صورته سلفاً، وهو أن ليس ثمة خلف لعون مع انتهاء ولايته تحت وطأة الانقسام الحاد الحالي داخلياً، كما ارتدادات النزاعات الإقليمية الأكثر سخونة. لا أحد يصدّق أنها حكومة الأشهر الستة، أو أن مهمتها الإصلاح فحسب. يقيم افتراضهم في ترجيح حصول شغور رئاسي بانتهاء الولاية على غرار ما حصل في المرتين الأخيرتين عامَي 2007 و2014، وفي كيفية إدارة التوازن الداخلي إبانه، من خلال انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى الحكومة القائمة وكالة.
لا تزال ماثلة في الأذهان تجربتا هذين الشغورين وما ترتب عليهما، مع أن الأول استمر 183 يوماً، والثاني 888 يوماً، بَانَ معهما مغزى دور رئيس حكومة حلّت في صلاحيات رئيس الجمهورية والدور الذي يضطلع به.

ليست مشاورات التأليف سوى عضّ متبادل للأصابع


أدارت شغور 2007 حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تفكّكت قبل الوصول إلى خلو الرئاسة باستقالة الوزراء الشيعة على أثر حرب تموز 2006، فأضحت حكومة الغالبية النيابية التي مثّلتها حينذاك قوى 14 آذار، وقادت نفسها إلى أحداث 7 أيار 2008. أما شغور 2014 فأدارته حكومة الرئيس تمام سلام التي حافظت على وفرة انقساماتها على تماسكها وانتظام جلساتها نظراً إلى التوازن التمثيلي في صفوفها. كلتاهما من 24 وزيراً، تألفتا في ظروف متباينة تماماً إلى حد التناقض: الأولى أفادت من تداعيات اغتيال الرئيس رفيق الحريري والخروج السوري من لبنان كي تقبض على السلطة الدستورية، فيما الثانية ثابرت على التزام مقتضيات اتفاق الدوحة بعد 7 أيار 2008 بتثبيت توازن سنّي - شيعي فيها منعها من الانفجار خلافاً لحكومة السنيورة التي أشعلت بنفسها النار في برميل البارود.
لا تشي المواصفات التي يطرحها الحريري للحكومة الجديدة إلا بأن تكون على صورة حكومة السنيورة، بتسميته هو الوزراء السنّة، والمشاركة في تسمية الوزراء المسيحيين، وترك الوزراء الشيعة والدروز للثنائي الشيعي ووليد جنبلاط.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا