من كان يلتقي حاكم مصرف لبنان الراحل إدمون نعيم، يذكر جيداً مكتبته الضخمة التي كانت ترتفع أعمدتها على مساحة بيته، يتسلق سلالمها للتفتيش عن عبارة أو قانون أو اجتهاد. لا يمكن الكلام عن الحاكم السابق، من دون الكلام عن إرثه الذي تركه، كما سمعته الحسنة. أيّ إرث سيتركه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بعد تركه حاكمية المصرف، أو حتى قبلها. عدا عن خلية المستفيدين والمخصصات العقارية والمالية الضخمة التي وزعها عليهم، والديون التي تسبّب فيها وإفقار اللبنانيين وانهيار سعر الليرة، لا يمكن أن يكتب عن إرث حضاري قد يتركه سلامة. لكن الأكيد أنه يمكن أن يكتب عن هذه الحالة التي تمكنت من تطويع غالبية السياسيين فلم يعد موضوع تغييره وخلافته مطروحاً للبحث رغم اهتزاز عرشه، بعدما استطاع أن يمسك مجدداً بموقعه، كما يمسك بدفتر كشوفات السياسيين وعائلاتهم والمصرفيين والاعلاميين، ليصبح أقوى من أي جهاز مخابرات. فكيف حمى نفسه مجدداً من تقلبات السياسيين الذين هادنهم طويلاً فهادنوه، وسحب التداول بملف ارتكاباته وكأن شيئاً لم يكن، مستمراً في نهجه السيّئ نفسه؟ابن «الحريرية السياسية»، انتقل من موقعه إبان حكم الرئيس الراحل رفيق الحريري، ومن ثم مع الرئيس فؤاد السنيورة، من أحد أركان التركيبة ومن موظف فئة أولى، الى قوة سياسية يحسب لها ألف حساب. لم يتم التعامل مع سلامة، في المأزق الأخير، ورغم الحماية القانونية لمنع إقالته، كموظف بل كقوة كبيرة توازي بثقلها الاحزاب السياسية، لكونه أثبت أنه أحد حلفائها الاساسيين. وأظهرت نتائج الازمة الاخيرة أن سلامة استطاع ترويض خصومه، وخرج منتصراً رغم كل الاخطاء والارتكابات، وما ينقل من كلام له في مجالس خاصة مصرفية ومالية عن قدرته على تحطيم أكثر لسعر الليرة إذا ضيق الخناق عليه، في مقابل ظهوره العلني على أنه المنقذ الوحيد لليرة.
التغطية «المستقبلية» له واضحة في شكل عام، وأسبابها مفهومة، نظراً الى حجم المستفيدين من هذه التركة. لم يكن مفاجئاً أن يتحول سلامة إلى أحد أبرز رموز المواجهة «المستقبلية» وحتى الـ14 آذارية، كما لو أنه أحد رموز «الاستقلال الثاني»، في حين أنه أحد رموز مرحلة الوجود السوري بعد الطائف، ومساهم أساسي في تغطية أموال دخلت الى مصارف في لبنان وخرجت منها في تلك المرحلة. لكن المفاجأة، حين تفاعلت كمية الاخطاء التي ارتكبها، أن سلامة عاد وحظي بتغطية متجددة من رئيس الجمهورية ميشال عون ومن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. رغم محاولات الإنكار التي تروّجها أوساط الطرفين لجهة أنهما كانا على أهبة الاستعداد لتبديل سلامة، لولا عدم تضافر إجماع سياسي حول قرار الاستبدال، محلياً ودولياً، إلا أن الصفقات المصرفية السابقة المتعلقة بـ«سيدروس بنك» وغيره، لا تزال قائمة، كما بعض العلاقات غير المكشوفة بعد تفاصيلها الكاملة. هناك سياسيون يتحدثون عمّا هو أبعد من «سيدروس بنك». لأن عدم استبداله لا يتعلق فحسب بجوانب قانونية، بل أيضاً بشبكات مصالح متقاطعة، لا يمكن للعهد وللتيار أن يقفزا فوقها، علماً بأنهما أيضاً حذران من الاسماء الأكثر قبولاً دولياً لخلافته، فيما هما يريدان تزكية شخصيات محسوبة عليهما مباشرة، وإن كانت تتمتع بالكفاءة ونظافة الكف، إلا أنها لا تجد قبولاً دولياً أو لدى قوى محلية بعد الخصومات الكثيرة التي باتت تظلل علاقة التيار بها. لم يقل عون أو باسيل صراحة دوافع قبولهما بالتجديد لسلامة، رغم معارضة عون الدائمة لفكرة التمديد بذاتها ولسلامة تحديداً. ولم يقولا اليوم أيضاً صراحة لماذا يفلت سلامة من كل ما يرتكبه، فيما يلاحَق غيره بملفات أقل خطراً.
مسيحياً أيضاً، وعدا عن شمول بكركي سلامة ببركتها، فإن القوات اللبنانية أظهرت أيضاً ميلاً الى عدم استبداله مع انضمامها أيضاً إلى الذين يروجون أن استهدافه يعني مساً بـ«الواقع المسيحي في الادارة ومناصب الفئة الاولى المارونية». رغم أنه لم يُعرَف عن سلامة يوماً انتماء مسيحي ولا تظلل بمرجعيات مسيحية كغيره من مديري الفئة الاولى، ولا حتى عُرف عنه «كرمه» كعدد من السياسيين ورجال الاعمال المسيحيين ذوي الخدمات الاجتماعية في أزمات مالية واقتصادية. «مسيحية» سلامة تنحصر في أنه استثمر في توظيف أبناء شخصيات ومسؤولين وأقاربهم، وأسهم في إحاطة نفسه بشخصيات مسيحية يقدم لها خدمات خاصة.
لم يقل عون وباسيل صراحةً لماذا يفلت سلامة من كل ما يرتكبه


في المقابل، وخلافاً للاتهامات التي تسوقها مجموعة من المهللين لسياسة سلامة «الحكيمة» وموقعه «المسيحي»، عن أن حزب الله يخوض معركة تطييره، فإن الحزب بدا كأنه يغطي حاكم مصرف لبنان، وخاصة أن حليفه الاول، الرئيس نبيه بري، وقف بوضوح في وجه تبديل حاكم مصرف لبنان، ولو بذريعة «الخشية من انعكاسات ذلك». كان يُنتظر أن يقود الحزب معركة التغيير حين فتح الملف للمرة الاولى. لكن الحزب جارى عون، وتراجع حين توقف الأخير بعدما غطت بكركي سلامة. استبدل الحزب معركته ضد سلامة بمواقف ضد المصارف حين رفع الامين العام لحزب السيد حسن نصر الله الصوت ضد ممارساتها. استشعرت المصارف الخطر، وسارعت الى بعض التعديلات، لكنها لم تكمل فيها الى الحد المطلوب، كما لم يكمل الحزب أيضاً، علماً بأنه الوحيد الذي يمكن أن يترك تأثيراً عليها، فيما هو خارج منظومتها المالية. سياسيون يتّهمون الحزب بمهادنة سلامة، لأنه «مهندس تفلت أقنية الحزب من العقوبات الاميركية، وبعلم الأميركيين أنفسهم». ومنهم من يعتبر أن غضّ النظر عنه هو رسالة تهدئة مع الاميركيين، خصوصاً أن الحزب يعرف أن أكثر من حليف له أعطى الاميركيين إشارة طمأنة إلى مصير سلامة، ولو أن الاميركيين لهم أسماء بديلة تحظى برضاهم. العبرة تبقى في الأجوبة الواضحة عن سؤال: لماذا لا يخوض الحزب معركة إسقاط سلامة، رغم الاتهامات بأنه يستهدفه؟