لا يحتاج حزب الله في هذه المرحلة من الوضع الداخلي والإقليمي المتخبّط، الى الانصراف الى معالجة شؤون حلفائه الداخلية. واضح تبرّم الحزب من الحلفاء الذين باتوا يزيدون أعباءه بدل تخفيفها، لأن ما يجري ضمن الخط الواحد سياسياً لم يعد مجرد مشاكل روتينية، بل تصفية حسابات وخلاف جذري بين حلفاء الصف الأول لا ينعكس عليهما وحدهما من موقعهما المسيحي ــــ الماروني، في التنافس على الرئاسة، إنما على واقع الساحة الداخلية التي أصبح الحزب ركناً متقدماً فيها، غير متساوٍ مع الأطراف الأخرى.من التسعينيات، وخط الافتراق بين خطّي الحزب من جهة، والقوى السياسية الأخرى، واضح لا يحتاج الى ترسيم. وكان يتقاطع في أزمات مفصلية أو في الحروب مع إسرائيل. أكثر من ذلك، ظلّت القوى السياسية تسير على المنوال نفسه، من إدارة وحركة سياسية وصفقات واستثمارات يتداخل فيها العام والخاص. وكان صعود القوة الاقتصادية ــــ السياسية لمشروع التسعينيات يتم في موازاة صعود القوة العسكرية، فتغضّ كل واحدة الطرف عن الأخرى. عام 2005، كان المفصل الذي جعل حزب الله ركناً أساسياً في التسويات وفي التقاطع الدائم مع القوى السياسية الأخرى، التي أضيف إليها التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، ليتكرس أكثر دوره بعد 7 أيار ومن ثم اتفاق الدوحة، إلى أن حانت التسوية الرئاسية.
لم يكن الحزب إلا شريكاً أساسياً، تارة مباشرة وطوراً عبر حليفه الرئيس نبيه بري، لكنه لم يكن في الصف الأول، كما هي حاله منذ سنوات. والتسوية الرئاسية ساهمت أكثر في تعزيز حضوره ودوره، ليس كشريك أول، إنما كصانع للحدث الداخلي. إلا أن هذه التسوية أخذت منه بقدر ما أعطته. ما حققته وثيقة تفاهم مار مخايل، وطرفاها كانا خارج السلطة بالمعنى العملاني، على الصعيد السياسي، تحوّل ثقلاً حين أصبحا في قلب معادلة الحكم وصائغين لها. وإن لم يترجم الثقل في صورة سريعة، فبفضل انضمام أفرقاء آخرين الى التسوية، كالرئيس سعد الحريري والقوات اللبنانية وحتى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. لكن تدريجاً، بدأ عبء التحالفات والوصول الى السلطة يرخي بثقله على الطرفين، ولا سيما مع تصاعد الاشتباكات المحلية بين التيار الوطني الحر من جهة، وكل من القوات وبري وجنبلاط... واخيراً الحريري، وصولاً الى تيار المردة من جهة أخرى. حافظ الحزب في هذه المرحلة على خطه الفاصل، لكنه رزح تحت وطأة المعادلة، التي تحوّلت فيها السلطة الثنائية الى شاهد على دولة تنهار مالياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وبدا البلد الذي بقيت التسويات السابقة تعوّمه ولو تحت قناع من المظاهر الخادعة، وعمليات الغش والفساد والمحسوبيات، غير قادر على تحمل أكلاف الانكشاف في طبقة سياسية تتداخل فيها مصالح معقدة، فانهار انهياراً غير مسبوق في تاريخه الحديث. رغم كلفة العقوبات والحصار الدولي والشروط الأميركية، ومعها صندوق النقد الدولي، لإخراج حزب الله من المعادلة الداخلية، والتي ستزيد من الضغط الداخلي على اللبنانيين مالياً واقتصادياً، يبقى الحزب مطوّقاً من الداخل.
أيّهما أخفّ وطأة على الحزب: جنبلاط والحريري أم حلفاؤه المسيحيّون؟

صحيح أن مشكلات لبنان في واقعها الفاسد والمهترئ لم تبدأ معه ولن تنتهي معه، لكن تحول الطبقة المهيمنة، سياسياً ومصرفياً ومالياً، على مدار السنوات الماضية، جزءاً أساسياً من منظومة فاسدة، تغلّب مصالحها الخاصة والشخصية على أي اعتبار سياسي، سيضع الحزب أمام تحدّي المفاضلة بين الحلفاء الأقل كلفة والأكثر فاعلية، إن لم يكن المفاضلة أيضاً مع قوى سياسية أخرى. لأن حلفاء السلطة الحالية باتت لديهم أجندات مختلفة عن أجندات ما قبل الوصول الى بعبدا وما قبل نهاية العهد والاستعداد للانتخابات الرئاسية. ولديهم اعتبارات تتعلق بشبكات مصالح في واشنطن والخليج وأوروبا، في مقابل حلفاء لديهم أيضاً مشاريع وطموحات رئاسية وتعزيز الدور السياسي. أليست مفارقة أن يكون حلفاء الحزب المسيحيون هم الأكثر مشاكسة وتفلتاً حين يتعلق الأمر بمصالحهم الخاصة؟ وتبعاً لذلك... أيهما أخف وطأة على الحزب، الحريري الذي أنتج معه أكثر من تهدئة سنية ــــ شيعية تمكّنا خلالها من تحييد شارعيهما، أم القوى الحليفة التي تربكه فتحوّله كما القيادة السورية، على ما كان يجري زمن التسعينيات، مرجعية الحل والربط لمشاكل يومية؟ وأيهما أخف وطأة عليه، جنبلاط القادر مهما رفع الصوت ضده على التحكم بمسار العلاقة بينهما كما الإمساك بمنطقته، أم حلفاء الحزب المصرّون على نبش القبور؟ وأيهما أسوأ على الحزب في الداخل: انهيار مالي في عز إمساكه وحلفائه بتركيبة الحكم، أم التفرج على حلفائه يتنافسون على الرئاسة والمصالح والتعيينات فيزيدون من اهتراء الوضع وهشاشته؟ ثمة سياسيون يرون أن الحزب اليوم أكثر ما يكون في حاجة الى ترتيب الوضع الداخلي في أزمة تنذر بالأسوأ، لأن «القِلّة» واستمرار الأزمة المالية تصاعدياً، سيضاعفان من حجم «النقار» الداخلي. وهذا لا يقوم على تأجيج الساحة الداخلية، بل على إعادة التوازن الداخلي، ولو اضطر الى التكيف مع المتغيرات التي حصلت في الأشهر الأخيرة وانكشفت فيها عورات كثير من السياسيين.