ثاني استحقاقات حكومة الرئيس حسان دياب، بعد السندات الدولية، اثنان متلازمان هما خطة الإنقاذ والموقف من صندوق النقد الدولي. لم تشهد حكومته انقساماً بين الأفرقاء السياسيين الذين يحتجبون وراءها على تسديد لبنان سندات 9 آذار، وأجمع هؤلاء جميعاً تقريباً على هذا الخيار باكراً، في موقف مبدئي أولي، قبل قدوم الاستشاريين الدوليين لتوفير التغطية التقنية والقانونية للقرار حيال الدائنين. لم تصعد موجات معارضة لدعم التسديد إلا من خارج الحكومة، تارة من معارضيها وطوراً من حاكمية مصرف لبنان وجمعية المصارف.بيد أن الأمر ليس كذلك في مقاربة التعاون مع صندوق النقد الدولي. هذه المرة الانقسام من داخل ائتلاف الحكومة، وقد لا يكون الوزراء الاختصاصيون بالذات وراءه. إلا أنه يعبّر في الواقع عن المحرّك الفعلي لحكومة دياب، وهو ائتلاف التيار الوطني الحر وحركة أمل وحزب الله. بسبب موافقة هذا الفريق على عدم تسديد السندات الدولية، لم تعد حكومة دياب في حاجة إلى غطاء سياسي أوسع نطاقاً، بل إلى الآليات المفيدة والمجدية التي تجعل قرارها ذا صدقية دولية أولاً، ثم محلية ثانياً، في مواجهة المعضلة النقدية الخانقة في البلاد. لذا اجتمعت تفاصيل المشكلة في التفاوض وسبل الحصول على موافقة الدائنين، أجانب ولبنانيين، على تأجيل الدفع من خلال برنامج هيكلة الدين العام. ارتبط هذا الملف بشقَّي سمعة لبنان في الأسواق المالية وإيفائه التزاماته مستقبلاً، وتجنب الوقوع في ثغر قانونية مكلفة.
الأمر يختلف تماماً حيال صندوق النقد الدولي، والدور المحتمل أن يضطلع به في لبنان. أمر ينفصل بكليته عن بعثة المساعدة التقنية التي قدّمها قبل أسبوعين.
على نحو ملحوظ وحادّ، يتباين موقفا فريقَي الائتلاف الثلاثي من صندوق النقد. بينما يرحب رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة والتيار الوطني الحر بالتعاون مع صندوق النقد من ضمن قواعد وشروط، يقف الثنائي الشيعي - وحزب الله أكثر - في المقلب الآخر، ويتخذ سلفاً موقفاً عدائياً من الصندوق، إذ لا يعثر على أسباب تمييزه عن السياسة التي يتبعها الأميركيون حيال الحزب، وسلسلة العقوبات التي يفرضونها عليه. لا يسعه الفصل بين دور تقني لصندوق النقد ينتشل لبنان من انهياره النقدي والاقتصادي، ودور سياسي يخفي وراءه حلقة أخرى من العقوبات بقشرة أممية تمثّلها هذه المؤسسة الدولية. مع إظهاره بقبوله بمهمة تقنية محدودة للصندوق، يبدو الحزب أكثر تصلباً من أي وقت من احتمال أن يؤدي التعاون معه إلى ما يشبه «ولاية» الصندوق على لبنان، بما يتجاوز مصائبه النقدية والاقتصادية إلى وضع اليد على القرارات السيادية، ولا سيما منها السياسية والعسكرية والأمنية خصوصاً، ناهيك بتلك التي تدخل في اختصاص الصندوق.
على هذا النحو يقارب حزب الله موقفه منه تبعاً لمعطيات، من بينها:
1 - أي دور نافذ ومتقدم لصندوق النقد الدولي، يصب في المنحى الذي أفضى إلى إخضاع المصارف اللبنانية له كي تستمر، ليس في النظام المالي العالمي فحسب، بل في النظام المالي الأميركي. الواقع أنهما واحد لعملة واحدة هي الورقة الخضراء التي أضحت الجيل الجديد البديل من الحروب العسكرية التقليدية والنظامية، والعمليات الأمنية المكلفة غير المصيبة دائماً، جيل العقاب بالدولار.
2 ـ رغم أنه تمكّن من أن ينجو بنفسه، إلى حدّ، عندما خرج من نظام المصارف اللبنانية بفعل عقوبات واشنطن التي أضحت سيفاً مصلتاً عليها، يعتقد الحزب بأن وجوداً فعلياً لصندوق النقد الدولي على الأرض اللبنانية يجعله أمام عدوّين لا عدو واحد، هما المصارف اللبنانية والصندوق نفسه الأكثر ضراوة حياله. الحزب تالياً، كأي فريق لبناني من ثلاثي الائتلاف الممثّل على نحو غير مباشر في الحكومة ويمسك بقرار غالبيتها، سيكون معنياً بالموافقة على هذا الدور للصندوق. لا يسعه أن يكون خارج التوافق، ويتعين عليه في المقابل الرضوخ لشروطه ومتطلباته. ليست المسألة تصويتاً على قرار كهذا، بل تحمّل كل الأعباء السياسية والنقدية المُفضية اليه، على نحو يُستشمّ منه أن ولاية الصندوق على لبنان ستُطبق على قراره السياسي الوطني برمّته ومؤسساته الدستورية.
3 - لا تتوقف الكلفة عند هذا الحد، بل تطاول أيضاً كل نشاطات الحزب خارج نطاق وجوده المباشر وغير المباشر في السلطة. تبعاً لذلك، فإن الحيز المهم الفاصل بين وجود حزب الله في مجلس الوزراء وفي مجلس النواب كقوة سياسية شعبية منتخبة، وبين وجوده على الأرض كحركة مقاومة مسلّحة متفلّتة من أي رقابة أو سلطة رسمية يصبح موضع مساءلة.
مذ أُطلقت فكرة «النأي بالنفس» للمرة الأولى في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011، ثم في صيغها المنسوخة المتتالية المعدّلة بخجل، في حكومات الرئيسين تمام سلام وسعد الحريري (2014 - 2019)، لم ينشأ جدل جدي وحقيقي مشابه لما رافق حقبة عامي 2005 و2008 بإزاء سلاح حزب الله، في مرحلة أولى، ثم بإزاء تدخله العلني في الحرب السورية منذ عام 2012. عولجت هذه الازدواجية بتسوية على الطريقة اللبنانية، قضت بتجنب مجلس الوزراء الخوض في كل ما ينقض سياسة النأي بالنفس. أما خارج المجلس، فلكل من الأفرقاء المعنيين بالحرب السورية ترك الحبل على غاربه وتورّطه هناك بالطريقة التي يفضّل. لذا كان من الطبيعي بفعل هذا التمييز المبني على تفاهم مسبق، أن لا ينفجر أي من الحكومات منذ ما بعد عام 2011، والأصح أيضاً العودة قليلاً إلى الوراء إلى حكومة 2008 في مرحلة ما بعد اتفاق الدوحة. فلم يتولّد أي خلاف على سلاح حزب الله أو تدخله في الحرب السورية.
يرفض حزب الله ولاية صندوق النقد لئلا تتحول إلى ولاية على سلاحه


4 - مع أن حزب الله لم يُتَّهم جهاراً وبفجور بنهب مال عام على الطريقة التي اتبعها أفرقاء آخرون في السلطة وخارجها، إلا أن ذلك لا يعفيه من مسؤولية موازية تصب، أخلاقياً وقانونياً، في المنحى نفسه. وهو أن له يداً طولى في الأزمة الاقتصادية جراء مزاريب إهدار مهمة وأساسية يُصوّب إليه على أنه غطّاها بفعل فائض قوته، عبر مرافق حيوية كالمطار والمرفأ ومعابر السلسلة الشرقية حجبت عن الخزينة أموالاً عامة ضخمة. ما يفترض إذّاك - وهو ما سيكون - أن هذه المزاريب شأن تلك الأخرى المصوّبة إليها أصابع الاتهام من هيئات وصناديق ومجالس إدارة رسمية ستكون جزءاً لا يتجزأ من الولاية المحتملة لصندوق النقد الدولي.
لا يقتصر الأمر على سدّ ثغر التهريب واسترجاع المال المُهدر فحسب، ولا حتماً تيقن الحزب من أن لصندوق النقد حيث يكون وظيفة غير مجرّدة وغير نزيهة. بل يطاول - وفي ذلك مكمن خشية الحزب - وضع اليد المباشرة على صلة الوصل التي تقود حزب الله إلى طهران مروراً بدمشق، من خلال السلسلة الشرقية تلك، إذّاك لا يُقارب دور الصندوق سوى أنه جزء لا يتجزأ من عقوبات أميركية، ذات حلقات متسلسلة تتوخّى تصفية مباشرة لمرتكز ثلاثي المحور الذي تقوده الجمهورية الإسلامية، يختلط فيها الشقّ العقيدي بالشقّ العسكري والأمني، لكن خصوصاً وربما أولاً بالشقّ الديني بالذات الذي لا يزال كذلك جزءاً لا يتجزأ من العقيدة نفسها.