إقدام ناجي الفليطي وداني أبي حيدر وأنطونيوس طنوس على الانتحار، في الأشهر القليلة الفائتة، بسبب معاناتهم المعيشية الحادة والفقر المدقع الذي حرمهم وعائلاتهم العيش الكريم، كان من دوافع البحث الذي أجرته مؤسسة «عامل» أواخر العام الماضي لقياس الكرامة الانسانية. التقرير سينشر الأسبوع المقبل، ولا بد أن تقارن نتائجه مع نتائج العام الجاري لتبيان مسار الانهيار الاجتماعي والحقوقي في لبنان، والانحدار نحو المجهول، في ظل انتفاء العدالة الاجتماعية والانهيار الاقتصادي.تناول البحث نتائج مقابلات أجريت مع 75 مشاركاً ومشاركة في مستوصفات ومراكز المؤسسة في الشياح وحارة حريك وحي السلم ومشغرة وكامد اللوز والبازورية والخيام خلال شهري آب وأيلول الماضيين. المشاركون والمشاركات كانوا قد حضروا الى المستوصفات للحصول على خدمات طبية أساسية مقابل مبلغ رمزي هو ثلاثة آلاف ليرة. ومعظم هؤلاء لبنانيون وسوريون يعانون من الفقر ويسعون في ظروف قاهرة لكسب عيشهم وعيش أولادهم بالعمل في ورش البناء وفي الزراعة، مقابل مبالغ تراوح بين عشرة آلاف ليرة وعشرين ألفاً يومياً، لا يسددها رب العمل بشكل منتظم في أغلب الاحيان.
ركزت منهجية البحث المعتمدة على تكوين مفهوم نوعي أكثر من التوصل الى خلاصات التحليل العددي. واعتمد الباحثون معياراً مركباً لتحديد الكرامة الانسانية، شمل خمسة محاور أساسية متشابكة هي: الحرية والسلام والعدل والاحترام والحاجات الأساسية. والمقصود بالحرية، إضافة الى حرية التنقل والتعبير والتجمع، حرية تقرير المصير والحد الأدنى من الاكتفاء المالي الذاتي. أما المقصود بالسلام فهو الأمن اليومي والاستقرار وعدم القلق الدائم، بينما لم يقتصر المقصود من العدل على المحاكم والقوانين، بل يشمل تقدير الذات. وكان تحديد الحاجات الأساسية، أي الصحة والمسكن والتربية والعمل، سهلاً أمام موضوع معيار الاحترام الشائك. واتفق على ترك موضوع الاحترام للتعريف من قبل المشاركين والمشاركات في البحث. وتبين لاحقاً أن معظمهم لا يكترثون للأمر من الناحية الحقوقية، ويعدّون أي مطالبة بالاحترام أمراً شكلياً ساذجاً لا يستحق التوقف عنده. فالكرامة بالنسبة الى معظم الذين قابلهم الباحثون تحدد بتقاضي راتب عادل وظروف عمل جيدة ومسكن مناسب، أما الاحترام فهو أمر عائلي وخاص ينطبق أكثر على تفاعل أفراد العائلة والبلدة بعضهم مع بعض، ولا علاقة له بالعلاقة مع أرباب العمل وأصحاب النفوذ والسلطة. يقول أحد العمال في ورشة بناء في كامد اللوز «يا أخي يعيّشوني بكرامة وما بدي شي غير هيك». ولدى سؤاله عمّا يقصده بالكرامة، أجاب: «يعني معاش يكفينا وبيت وضمان وبس».
إضافة الى تردّد العمال في التعبير عن أي شكوى بسبب التعامل العنيف أحياناً لأرباب العمل معهم وترهيبهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم في بعض الحالات، عبّر بعض الأطفال الذين كانوا برفقة والديهم أثناء المقابلات، عن خوفهم من العسكر والمظاهر الحربية وعنف السلطة. وتبين أن عدداً من المشاركين في البحث يعيشون في مساكن مخالفة للقانون وفي خيم وأبنية مهجورة، ما عرّضهم ويعرّضهم لمضايقات وصدامات مستمرة من القوى الأمنية والعسكرية، يتخللها في بعض الأحيان صراخ وعنف وضرب وبكاء، وإرغام على انتقال الأسرة الى مكان آخر في ظروف قاهرة.
وبيّن البحث كذلك أن مدخول المشاركين فيه لا يكفي لتغطية كلفة المأكل والمسكن والتربية لعائلاتهم، وأن هؤلاء يعتمدون بشكل شبه كامل على المساعدات من منظمة الأمم المتحدة لتأمين الطعام، وعلى مؤسسة «عامل» للخدمات الطبية والصحية وتأمين الدواء، وعلى الهيئات الاهلية والجمعيات الخيرية الأخرى للحصول على التربية وبعض الدعم لتأمين المسكن ومستلزماته الأساسية.
وكان لافتاً أنه لدى سؤال المشاركين في البحث عن الراتب الذي يتمنون تقاضيه ليتمكنوا من الحفاظ على الكرامة الانسانية لهم ولعائلاتهم، ذكر معظمهم زيادة طفيفة على ما يتقاضونه بشكل غير منتظم اليوم. فعلى سبيل المثال، تمنّى أحد عمال البناء الذي يتقاضى نحو 600 الف ليرة شهرياً أن يرفع المبلغ الى 800 ألف، وكان طموح إحدى العاملات في الزراعة، التي تتقاضى عشرة آلاف يومياً، أن يرفع المبلغ الى 15 الفاً يومياً، مع علمها بأن زوجها الذي يقوم بالعمل نفسه يتقاضى 20 ألف ليرة يومياً.
وبدا أن عدداً من العمال والعاملات المياومين والمياومات قبلوا وضعهم الدوني وحرمانهم من أبسط حقوقهم الانسانية، إذ إن بعضهم فوجئ أولاً بإثارة الباحثين لموضوع حقوق الانسان بجدية. فبالنسبة إليهم، هذه «شعارات فارغة» لا تستحق التوقف عندها بجدية. ولدى إصرار الباحثين على التمسك بالمطالبة بالحقوق، قوبلوا بالتهكّم والمزاح.
وتبين من نتائج البحث أن معاناة الامهات والزوجات والبنات مضاعفة، إذ إنهن تحمّلن أعباء العناية بجميع أفراد الأسرة من دون أي تقدير أو مقابل، كما تعدّ خدمات العناية من واجباتهن التي تحددها التقاليد والقيم الاجتماعية، التي لا مجال لتغييرها أو تعديلها، رغم المساهمة الأساسية للنساء والبنات في تأمين الدخل وتحمل المسؤوليات والتخفيف من المعاناة قدر الإمكان.
الفوارق بين اللبنانيين وغير اللبنانيين من المشاركين في البحث، بدت نادرة وقليلة الاهمية. ومثلما لا يلحظ المجتمع الفوارق في الجنسية بين الأثرياء في المجتمع اللبناني، فإن العكس بدا صحيحاً بالنسبة إلى الفقراء. لا بل ابتسم أحد العمال اللبنانيين خلال مقابلته وقال ممازحاً «نحنا كلنا سوريين». وقد يقابل ذلك تصنيف الأغنياء بـ«اللبنانيين»، في إشارة واضحة الى أن الفارق الاجتماعي والمعيشي والاقتصادي يتقدم على اختلاف الجنسية.
أخيراً، لا بد من الإضاءة على اعتماد معظم الذين تمّ الاستماع اليهم على المساعدات وعلى فاعلي الخير والجمعيات والهيئات الاهلية، ما يدل على غياب شبه تام للدولة ومؤسساتها.