ما إن سلك ملف التعدي على الأملاك البحرية طريقه الى النيابة العامة التمييزية، حتى استبشر متابعو الملف خيراً، وذهب البعض حدّ تصديق أنه بات بالإمكان استرجاع جزء كبير من الشاطئ المعتدى عليه منذ عشرات السنوات. ثلاثة أشهر مرّت على انتهاء المهلة المحددة بحسب القانون الرقم 64 الصادر عام 2017 (تم تمديدها مرتين)، لتسوية المعتدين على الأملاك البحرية أوضاعهم عبر تسديد الرسوم الواجبة عليهم. الملف دسم. طلبات «معالجة» التعديات بلغت 386 طلباً فقط من أصل أكثر من ألف مخالف، أي إن 700 مخالف امتنعوا عن الدفع، وبالتالي يتيح القانون بكل وضوح وضع اليد على المساحات المشغولة من الملك العام. (راجع «الأخبار»، 3 كانون الأول 2019). كل ما كان ينبغي فعله على وزارة الداخلية والقضاء المختص بعد تحويل وزير الشغال السابق يوسف فنيانوس الملف اليهما، تطبيق أحكام المادة 11 من القانون «لجهة إخلاء الأملاك العامة البحرية من شاغليها دون ان يترتب لهؤلاء أو لمن يستمدون حقوقهم منهم اي حق أو تعويض تجاه الإدارة من أي نوع كان». أوحى النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، خلال الاجتماع الذي عقده بتاريخ 20 كانون الثاني من العام الجاري، أن «الفرج آت» عبر التوجه «لوضع اليد على المخالفات التي لم يتقدم أصحابها بطلبات معالجة واستثمارها وملاحقة أصحاب المخالفات التي لم يتقدم أصحابها بطلبات معالجة أو لم يسدّدوا لتاريخه الغرامات الواجبة عليهم».
(هيثم الموسوي)

وما هي الا أيام حتى أعلن المحامي العام التمييزي القاضي غسان خوري، المكلّف بمتابعة هذا الملف، «إعطاء مهلة شهر للأشخاص الذين لم يتقدموا بطلبات لتسوية أوضاعهم». وطلب خوري من «مفارز الشواطئ في قوى الأمن الداخلي استدعاء الأشخاص الواردة أسماؤهم في جدول مديرية النقل في وزارة الأشغال العامة، على أن يصار إلى اتخاذ إجراءات قانونية بحقهم في حال امتنعوا عن تسوية أوضاعهم». ما يعني بوضوح أكثر المزيد من المماطلة الى حين إيجاد مخرج ملائم لحل هذه الأزمة لصالح المعتدين طبعاً وتأمين فرصة إضافية لهم لمعالجة تعدياتهم.
«الأخبار» اتصلت بالقاضي غسان خوري الذي شرح أن مهلة الشهر هي لتسديد المتخلفين عن الدفع «الرسوم المتوجبة عليهم مضروبة بثلاثة أضعاف». لكن المهلة انتهت منذ نحو ثلاثة أشهر، كيف يمكن القفز فوق القانون لتمديد المهل؟ «هو تدبير روتيني لتبليغ المتعدّي بضرورة الدفع». لماذا لا يتم وضع اليد مباشرة على هذه الأملاك العامة المشغولة ما دام القانون يتيح ذلك؟ يقول خوري بداية إن «الدولة لا تملك مؤسسات ولا امكانيات لوضع اليد»، ليُعقّب بعدها بأن الخطوة الأولى تكون بوضع اليد المادي لاستيفاء الرسوم، ثم البحث في باقي الاجراءات. ماذا لو لم يدفع هؤلاء مجدداً ضمن المهلة؟ «عندها سنتخذ قرارات مشددة، كتوقيف المخالفين أو تجديد المهل مرة أخرى»! فوفقاً لخوري، كل المنتجعات والشاليهات الكبيرة دفعت رسومها، ومن لم يدفع هو المنازل الفقيرة والمخيمات السكنية من السان سيمون إلى الصرفند: «تعتير يعني»، علماً بأن لائحة الأسماء التي سبق أن نشرتها «الأخبار» تتضمن أسماء منتجعات ورجال أعمال وسياسيين وأحزاباً ودور عبادة ممن لم يسددوا الغرامات الواجبة عليهم. إذاً، هل الدولة عاجزة عن استرجاع ملكها العام؟ «أريد استيفاء الرسوم أولاً، وبعدها ننتقل الى الخطوات التالية. أصلاً ليس هناك تصور بعد لكيفية وضع اليد. يحتاج الأمر الى آلية وفريق عمل وموظفين مفصولين تماماً لهذه المهمة». ويجدر الذكر أن المواد المذكورة في القانون لم ترفق بمراسيم تطبيقية لآلية استرجاع هذه العقارات المشغولة والجهاز المكلف بتنفيذ الأمر. لكن ذلك لا يعطي مبرراً للدولة ممثلة بوزارة الداخلية وقوى الأمن والقضاء لاختلاق التبريرات والحجج الواهية لسارقي الأملاك البحرية حتى يتمادوا في سرقتهم وانتهاكهم لهذه الأملاك. هؤلاء جميعاً يبيحون لمجموعة صغيرة من النافذين والمحظيين والسياسيين وزعماء الأحزاب وأزلامهم انتهاك الحق العام وحق المواطنين في شاطئ عام، ويؤكدون أن سلطة هؤلاء أقوى حتى من سلطة القضاء أو أي قانون. فالقضاء تعامل مع القانون بشكل مجتزأ، فيما المادة الأولى من البند الرابع من القانون واضحة: «يتوجب على المخالف الذي لم يطلب معالجة وضعه خلال الفترة الممددة غرامة قدرها ثلاثة أضعاف الغرامة المحتسبة فيما لو تقدم بطلب المعالجة، وتطبّق بحقه تدابير الإخلاء ووضع اليد المنصوص عليها في الفقرة سابعاً». اذاً، الدفع لا «يشرّع» وضع المتخلف عن الدفع، بل يستتبع بإخلاء العقار المشغول وإعادته الى الدولة. لكن ثمة من يريد تجزئة القانون، والقول إن من تمنّع عن دفع الغرامة الرئيسية الزهيدة، والتي هي بالمناسبة عبارة عن نكتة سمجة تعادل 4$ للمتر بين صور والناقورة و12 دولاراً في منطقة الروشة و10$ في أنطلياس و4$ في جبيل و4$ ونصف في طرابلس، سيذهب اليوم لتسديد مستحقاته مضروبة بثلاثة أضعاف. رغم أن المبالغ المتوقعة من القانون عند إصداره تحت عنوان تمويل سلسلة الرتب والرواتب بلغت حوالى 1200 مليار ليرة، الا أن ما تمّت جبايته لم يتعدَّ خمسين مليار ليرة.
يُخشى من أن يكون تعديل القانون مدخلاً لتمديد إضافي خدمةً للمتعدِّين


الحديث عن تمديد المهل مجدداً بعد مهلة الشهر التي أعطاها القاضي خوري، ليس كلاماً بريئاً، بل يقود الى مخاوف كثيرة، لا سيما أن البيان الوزاري الذي أقرّ يوم أمس، يتضمن مادة تنص على الآتي: «إعداد مشروع قانون يعدل ويعيد النظر في القانون الرقم 45 بتاريخ 21/08/2017 حول معالجة مخالفات الأملاك العامة البحرية وإعادة النظر في المراسيم المتعلقة بإشغال أملاك عامة بحرية وكل الاملاك العامة والتي لا تتوافر فيها شروط الترخيص أو غير مطابقة للقوانين المرعية الاجراء». يصعب هنا التكهن بما دفع معدّي البيان الى إدراج تعديلات وقوانين جديدة، فيما المشكلة ليست في نقص القوانين بل في تطبيقها. أبرز دليل على ذلك هو امتناع الدولة، بسلطتيها التنفيذية والقضائية، عن الالتزام بالقانون، قبل ابتكار مهل جديدة من دون وجه حقّ. الخوف أن يكون التعديل مدخلاً الى تمديد اضافي للمهل خدمة للمعتدين على الأملاك العمومية البحرية، وسعياً لـ«قوننة» وجودهم. يتطلب الأمر إيضاحاً من رئيس الحكومة حسان دياب ووزيرة العدل ماري كلود نجم ووزير الداخلية محمد فهمي ووزير الأشغال العامة ميشال نجار، حتى لو لم يكن الأخير حاضراً خلال إعداد البيان الوزاري، لكن يفترض أن يقع الملف في سلّم أولوياته.