مخالفات النيابات العامة، سواء في القضاء العادي أو العسكري، سجّلت في أكثر من قضيّة منذ 17 تشرين الأول، وتكرّرت هذا الأسبوع بشكل خاص في عدد من القضايا.هذه المخالفات تظهر جلياً في قضيّة أعمال الشغب في طرابلس التي وقعت في 26 تشرين الثاني الماضي، ونتج عنها توقيف شخصين ومذكرات توقيف غيابيّة. نور شاهين هو أحد الموقوفَين في القضيّة منذ أكثر من شهر، ولا يزال في سجن قيادة الشرطة العسكرية في الريحانية، وقد ادعت عليه النيابة العامة العسكريّة برئاسة القاضي بيتر جرمانوس بـ«محاولة قتل عناصر من الجيش». فاضل الدرج موقوف آخر مرّ على توقيفه في سجن رومية أكثر من شهرين، وادّعت عليه النيابة العامة العسكرية بـ«جناية الخطف» (المادة 569 من قانون العقوبات) بفعل إغلاق باب مركز حراس المدينة في طرابلس خلال الشغب.
بحسب المحامي محمد صبلوح، المكلّف بالقضيّة من نقابة المحامين في طرابلس، «عُقدت الاثنين الماضي جلسة تحقيق ثانية أمام قاضية التحقيق العسكري نجاة أبو شقرا، خُتم فيها التحقيق وحوّل الملف إلى النيابة العامّة للمطالعة وإبداء الرأي».
الموقوف شاهين يواجه تهمة أخرى وجّهتها إليه النيابة العامة العسكرية، بشأن «التعامل بشدّة مع عناصر قوى الأمن أمام المجلس النيابي». خلال جلسة محاكمته أمام المحكمة العسكرية الجمعة الماضي، أفاد الموقوف عن تعرّضه للتعذيب خلال التحقيق في وزارة الدفاع، ووافقت المحكمة العسكرية على طلب عرضه على طبيب شرعي. لكن في جلسة أول من أمس، «تبيّن أن من كشف على شاهين ليس طبيباً شرعياً مستقلاً بل طبيبة السجن (الريحانية) بما يخالف اتفاقية مناهضة التعذيب، إضافة إلى أنها أجرت له فحصاً للسكري وقالت إنه صالح لدخول السجن! فيما قُدّم طلب تعيين طبيب شرعي قبل أسبوع وكان يفترض تعيين الطبيب خلال 24 ساعة». القاضي العسكري قرّر، أول من أمس، تعيين طبيب أسنان متخصص للكشف على شاهين، ولكن على نفقته الخاصة وطلب سلفة 200 ألف ليرة لذلك، بدلاً من تعيينه على نفقة المحكمة! وقد أجّلت الجلسة إلى 25 الجاري، ولم يتم تحويل الملف إلى القضاء للتحقيق فيه كون الموقوف أفاد بتعرّضه للتعذيب.
في قضيّة شاهين وحده، تظهر مخالفات عدّة للنيابات العامة، يضاف إليها أن النيابة العامة التمييزية برئاسة القاضي غسان عويدات، لم تتخذ أي تدبير بشأن الإخبار الذي قدّمه لها المحامون في وقت سابق «بجرم الاختفاء القسري والتعذيب» الذي تعرّض له شاهين، ولم تستجب لطلب تكليف طبيب شرعي لمعاينته، «بل اكتفت بالإفصاح عن مكان احتجازه في وزارة الدفاع» وفق لجنة المحامين المتطوّعين للدفاع عن المتظاهرين، وهو كان سلّم نفسه الى مخابرات الجيش في 25 كانون الأول الماضي.

مصرف «الاعتماد» ومركز «التيّار»
في ملف آخر، يجمع قضيّتين: رمي مولوتوف على مركز التيار الوطني الحر في جونيه (6/12/2019)، وحرق واجهة مصرف الاعتماد اللبناني في الزوق (5/1/2020) من دون وقوع أي إصابات في الحادثتين... لا يزال أربعة أشخاص موقوفين في الملف (أخلي سبيل تسعة موقوفين آخرين). النيابة العامة في جبل لبنان برئاسة القاضية غادة عون ادعت على الأربعة بجرم «إثارة الحرب الأهلية والاقتتال الطائفية والشغب» وفق المادة 308 من قانون العقوبات التي تصل عقوبتها إلى الأشغال الشاقّة المؤبّدة، وبجرم «تشكيل مجموعة بقصد ارتكاب الجنايات على الناس أو الأموال أو النيل من سلطة الدولة» وفق المادة 335 من القانون نفسه وعقوبتها الأشغال الشاقة المؤقتة، ولا تنقص عقوبتها عن 10 سنوات إذا كانت الغاية الاعتداء على حياة الغير.
الموقوفون الأربعة إلى حينه، هم: جورج قزي ومحمد سرور (أوقفا منذ شهر) وجو شليطا وجهاد العلي اللذان أوقفا الاثنين بعد استجوابهما خلال جلسة استكمال التحقيق والاستماع إلى الشهود أمام قاضي التحقيق في بعبدا بسام الحاج. القاضي رفض إخلاء قزي وسرور رغم شكواهما من التعرّض للتعذيب في وزارة الدفاع، «وختم التحقيق بانتظار مطالعة النيابة العامة وصدور القرار الظني» وفق المحامي مازن حطيط، أحد المحامين المكلّفين من نقابة المحامين في بيروت بمتابعة الملف. ويضيف «لم يحصل ضرر على المصرف وهو أسقط شكواه بحقّ قزي، وقد تحوّل رمي المولوتوف بغضّ النظر عن تأكيد ما حصل من عدمه، إلى ادعاء بالمادة 308 حيال تهديد السلم الأهلي!».
بدل تعيين طبيب شرعي على نفقة النيابة العامة تقع النفقة على الموقوف بدل تعيين طبيب شرعي على نفقة النيابة العامة تقع النفقة على الموقوف


القاضي الحاج لم يبادر بشأن إفادات التعذيب إلى إحالة الملف إلى القاضية عون أو إلى مدعي عام التمييز، وهو ما يفترض تعيين طبيب شرعي على نفقة النيابة العامة (يحصل ما هو مخالف وتقع النفقة على الموقوف) وفتح تحقيق تلقائي بموجب القانون 65/2017 (قانون التعذيب). ووفق هذا القانون، يمكن للنائب العام إحالة الملف إلى قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان من دون الحاجة إلى الضابطة العدلية وفق القانون نفسه.
في القضيّة نفسها، كان ربيع الزين موقوفاً لمدة أسبوع، وقد أخلي سبيله بكفالة ماليّة في جلسة الاثنين. لكنّ دور النيابات العامة ظهر أيضاً، من خلال استئناف النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان قرار إخلاء السبيل، لتعود الهيئة الاتهامية في جبل لبنان وترفض الاستئناف وتخلي سبيله. ولأنه جرى الربط بين رفض إخلاء سبيل الزين وحادثة سابقة له مع القاضية عون، يطالب المحامون كلّاً من النيابات العامة وقضاة التحقيق بتعليل قراراتهم بالتوقيف أو برد طلبات إخلاء السبيل.

«مولوتوف» جمعيّة المصارف
إنها قضية حسن ياسين الذي اعتقل أمام جمعية المصارف في 22 الشهر الماضي، وهو واجه ادّعاءين وتعرض للضرب لدى إلقاء القبض عليه وداخل ثكنة الحلو قبل التحقيق معه. الادعاء الأول من النيابة العامة التمييزية بـ«حيازة المولوتوف» وأفرج عنه فيها قاضي التحقيق في بيروت فور الاستجواب. والثاني من النيابة العامة العسكرية بـ«معاملة قوى الامن بالشدة» وقد وافقت المحكمة العسكرية خلال جلسة محاكمته، الاثنين، على اخلاء سبيله بكفالة مليون ليرة. يشير المحامون إلى أن «إشارة النيابة العامة التمييزية بتوقيفه تمّت قبل التثبت من مسألة حيازته المولوتوف، إذ لم يرد في محاضر التحقيق معه وجود المولوتوف بحوزته، وقضت بإحالته إلى المحكمة العسكريّة»، ويرون «أن الفصل في القضيّة نفسه بين القضاءين العادي والعسكري ليس مفهوماً، في حين أن الكفالة الماليّة غير منطقية كونها يفترض أن تكون ضمانة تعويضات شخصية... لكن على ماذا؟».



ردود النيابات العامة
مصادر النيابات العامة ردّت على أسئلة «الأخبار» بشأن كل ما تقدّم بأن «المواد المدّعى فيها تنطبق على الأفعال المرتكبة والواردة في التحقيقات الأولية، مثل قضية إحراق واجهة المصرف أو رمي المولوتوف على مركز حزبي، وهذه وقائع ثابتة في التحقيق وتُبيِّن تشكيل مجموعة (المادة 335 عقوبات) كان قائدها ربيع الزين، ولذلك ردّ طلب إخلاء سبيله إذ لا يمكن ترك القائد والإبقاء على من عملوا بأوامره».
المصادر تردّ على مسألة عدم قبول طلبات إخلاء السبيل، بالقول «الطلبات كلّها تردّ من النيابات العامة لأنها تمثّل الحق العام، وصلاحيّتها هي التشدّد في الادعاء للحصول على ما هو أقلّ منه، ودورها الحفاظ على السلم الأهلي، لذلك فإن رمي مولوتوف على مركز حزبي قد تكون شرارة لانطلاق حرب أهليّة»!.
وعن التصاق النيابات بالسلطة السياسيّة وحفاظها على مصالحها أكثر من وقوفها إلى جانب الشعب، تجيب المصادر «قد يتعاطف النائب العام مع مطالب المتظاهرين السلميين، ولكن دوره ليس التعاطف مع المخرّبين». وعن التدخلات السياسية، أكدت أن «ما خص السياسة. في قانون وعلينا تطبيقه». أما في ما يخصّ اتهام القضاة باسترضاء السلطة قبيل التشكيلات القضائيّة، فتردّ المصادر «لو كان ذلك صحيحاً لما ادعينا على من قطعوا الطرقات وطلبنا توقيفهم قبل اقتراب التشكيلات». وعن عدم تحرّكها إزاء إفادات المعتقلين عن تعرّضهم للتعذيب وعدم الاستجابة لطلبات كشف الطبيب الشرعي، تقول المصادر «التعرّض للتعذيب هو حجّة يردّدها كل موقوف وفي أي قضيّة، ولم يثبت لنا ذلك، خصوصاً أن الأدلة واضحة فلماذا سيعذّبونهم؟ ثمة أجهزة لا تعذيب فيها... إضافة إلى أن قضاة التحقيق لا يحوّلون إلينا دوماً ملفات من أفادوا عن تعرّضهم للتعذيب. في المقابل هذه التحقيقات لا تُعالج مثل أي تحقيق عادي، إذ إن عناصر قوى الأمن يتعرّضون للضرب بدورهم وبعضهم كسرت جمجمته، وثمة جرحى في صفوفهم ولديهم ردود أفعالهم».