مع آخر «قطفة»، العام الماضي، مات الياس النجّار، أكبر «الملاحين» في ددّه الكورانية. قبل ساعات قليلة من موته، مرّ على ملاحته، قبل أن يعود أدراجه صوب الكنيسة. هناك، فارق التسعيني عمره الذي قضى 67 عاماً منه في «شغل» الملح.اليوم، بدأ موسم الملح من دون الياس النجّار. توقفت ملاحة أخرى عن العمل، ومات معها جزء من الحكاية. مع ذلك، ترك عميد الملاحين، كما صار اسمه أواخر عمره، شغفه لمن بقي هناك. واحد من هؤلاء هو حافظ جريج. يكمل الأخير سيرة الملح عن أمه التي عاشت مئة وثلاثة أعوامٍ تشتغلها وترويها.
حرب على الملح من المستوردين والمنتجعات السياحية ودير سيدة الناطور

من أنفه، حيث ملاحة أمّه، ينتقل جريج فجر كل سبت إلى السوق العتيق في مدينة جبيل حاملاً معه إنتاجه من الملح. هو ليس بائعاً، بقدر ما هو «راوي قصّة». حضوره إلى السوق ليس هدفه «أن نبيع الملح فقط، وإنما أن نخبر عن تاريخ ملحنا وأماكن إنتاجه وما تتعرض له اليوم». لذلك، لا يحسب غلته في آخر نهاره، فكل ما يعود به هذا المنتج «خير وبركة». لا يهمه أصلاً كم يجني. المهم أنه «يشتغله» بشغف: «كل شغل بتشتغليه بهيدا النفس بتجني منو أفضل مما يمكن إنو تجني من عمل تجاري».
هذه العلاقة أساسها البحر. وهذا، بالنسبة لجريج، ليس فقط «سمك وملح»، وإنما شغف. البحر مصيدة. بجانبه، أكمل جريج 68 عاماً من العمر بدأها بعمر سنتين مع أمه عند شاطئ أنفه. هذا ما كنت تفرضه «الديموغرافيا في حينها»: النساء والأولاد لأعمال الملاحات والرجال للصيد والزراعة والتجارة. هكذا، تربّى مع من يشبهونه على شواطئ أنفه بين «غبابيط» الملح. صحيح أنهم تعلّموا، إلا أن صحبة البحر ردّتهم إليه. درس جريج في كلية الحقوق والعلوم السياسية «بس ما عملت محامي». ولأنه لم يكن قادراً على ترك إرث أمه، «عملت بالتدريس وعلى الملاّحة» التي بقيت له بعدما تقاعد من عمله في التعليم.
اليوم، هو ملاح في أنفه وبائع و«حكواتي» في سوق جبيل وفي مهرجانات الملح. يتوكأ على ذاكرته لسرد تلك الحكاية لقاصديه عن إنتاج الملح اللبناني وعن النباتات التي تعيش معه وآخر قلاعه. هذا «المارش» الذي يواظب عليه جريج كان نواة الرواية التي ستصدر قريباً باسمه تحت عنوان «حبات الملح». وفيها، يجمع قصصه وقصص الناس مع الملح وما كانه وما آل إليه اليوم مع طفرة المنتجعات السياحية التي قامت فوق الملاحات، و«الحرب» القائمة اليوم مع دير الناطور، آخر مساحة لإنتاج الملح في الشمال.
منتجعات سياحية نشأت خلال الحرب فوق نحو 450 ألف متر مربّع من الملاحات


يرفض جريج أن ينتهي الملح اللبناني هكذا. وهو إذ يمتنّ لهذا المنتج في ما وصل إليه، إلا أنه يأسف لـ«قلّة وفاء البعض» الذين استبدلوا حياتهم ونمط عيشهم ورزقهم للعمل «عند الناس». الملح هو «اللي عمل المدينة» قبل أن تأتي الوظائف، وهو كان المال بالنسبة لكثير من العائلات وكان يجري التبادل به. فمقابل الملح «كنا نأكل المؤونة الجبلية وتذوقنا البطيخ من الطنابر التي كانت تأتي من جبال المنية... الملح خرّج محامين ومهندسين وأطباء»، ولا يزال كذلك بالنسبة للقلّة التي لا تزال تعتاش من مردوده.
الملح اللبناني ليس «إبن مبارح». هو، في أنفه ودده وفيع وغيرها، «من أيام الرومان والفينيق». يستند في ذلك على كتابٍ لمؤرّخ ألماني اسمه «لبنان القديم»، يسرد فيه المؤرخ حكاية «تلك المادة البيضاء التي اكتشفها الفينيقيون صدفة حيث كان يقذفها البحر في الجور الطبيعية التي صار اسمها لاحقاً غبابيط». تذوّقها الفينيقيون «فوجدوا لها طعماً مستساغاً واكتشفوا لاحقاً أنها تحفظ أطعمتهم، فاستخدموها في أسفارهم، كما استخدمها الرومان في صناعة الأرجوان».
من هناك، كان صيت الملح، وهو لذلك «ليس بحاجة إلى دعاية». أما الملح المستورد الذي غزا الأسواق اللبنانية وخرّب المهنة فقد بدأ «مع الإنتداب الذي عمد إلى منع إنتاج الملح لحماية مصالح تجار بيروت الذين بدأوا باستيراد الملح». في تلك الفترة، عمدت سلطات الإنتداب إلى تكسير الملاحات فكان الردّ بـ«ثورات في البترون وأنفه». يومها، اعتمد الأهالي «ردّية» لا يزال جريج يحفظها. كانوا يقفون أمام ملاحاتهم ويردّدون: «ملّاحة ما بتتكسّر / لو تحت السيف متنا / ملّاحة ما بتتكسّر / هاي عيشتنا ورزقتنا».
استمرت الحرب حتى سنوات الإستقلال حين عادت الملاحات إلى العمل بقرار حكومي، قبل أن يصدر قرار بتنظيمها من خلال استحصال مستثمري الملاحات على تصاريح. عام 1956 صدر أول قرار يسمح للملاحين بتأسيس نقابة كانت مدينة الملح أنفه مركزها. في ذلك الوقت، كان الإستهلاك المحلي يقدر بخمسين ألف طن سنوياً، «كانت أنفه والجوار تنتج منه 35 ألف طن». وكان الإنتاج المحلي «محمياً بقرار رسمي وضع ضريبة قاسية على الإستيراد».
هكذا، سار النظام. كان الملاحون يدفعون الرسوم مقابل استثمار الملاحات، واستمروا على هذه الحال حتى اندلعت حرب العام 1975. يومها، توقفت الملاحات. ازدادت الحاجة إلى الملح، فصاروا يستخرجونه من الصخور ومن ثم يطحنونه ويكررونه. يتذكّر جريج بحسرة «كيف كانت تقف عشرات الكاميونات أمام معامل التكرير منتظرة دورها، فيما الملاحات التي لا يحتاج ملحها للتكرير متوقفة». يومها أيضاً، دخل المستورد بقوة.
في أواخر الثمانينيات، أعاد أبناء المنطقة إحياء ملاحاتهم. ولكن، كان ثمة ما تغير. كان «صار بهيدي الفترة غزو للملح المستورد وللمنتجعات السياحية التي اشترت حقوق الإستثمار من أصحاب الملاحات وقامت فوقها».
ما الذي تغير؟ يقول جريج «كل شيء، إلا طعمة الملح». صغرت مساحة الإنتاج. طار ما يقار 800 ألف متر مربع «منتجعات سياحية نشأت خلال الحرب، منها 450 ألف متر مربّع ملاحات»، وقسم آخر هجره أهله، وقسم ثالث معطّل ولا يزال «بأمر من بطركية الروم الارثوذوكس، خصوصاً أن أكبر مساحة إنتاجية للملح في لبنان ملك لوقف دير الناطور». قبل ذلك، كان ثمة عقد استثمار بين «البطركيةوالملاحين في أنفه وفيع ودده والقرى على التلال القريبة من البحر». وكان من ضمن العقد بندان «أحدهما يقول إنه إذا أرادت المطرانية إلغاء الملاحات يجب أن تدفع تعويضاً إلى أصحابها يقرّره خبير بحسب سعر المتر الحالي، وثانيهما أنه إذا أرادت الدولة إلغاء الملاحات، لا تدفع المطرانية اي تعويض». هذه النقطة الأخيرة كانت بداية «الخطة» التي انتهجتها البطركية «من خلال عقد وقعته مع شركة إنماء دير الناطور، ظاهره تطوير العمل وباطنه تدمير الملاحات وإقامة مشروع استثماري». وهو التوجه الذي لا يزال قائماً حتى هذه اللحظات.
اليوم، الأماكن التي هجرت تحولت إلى مكب للنفايات ومحرقة، وهي التي تقع «فوق الطريق الساحلية». أما ما تحت الطريق الساحلية، ففيه ما بقي من ملاحات أنفهوالتي ضاقت مساحتها إلى حدود 200 ألف متر مربع. هناك، لكن، الخوف من أن تصغر أكثر، والدليل؟ أنه «كلما أراد الملاحون أن يقوموا بصيانة ملاحاتهم ترسل البطركية والمستثمرين الجدد الدرك إليهم».
«المعركة طويلة»، يقول جريج. وما يفعله اليوم أنه استحال مجرّد راوٍ لحكاية لا تتعدى مساحتها أكثر من 200 ألف متر مربّع!