رغم كل ما يكتب عن المستقبل الواعد للنفط والغاز في لبنان، وكل المراهنات على أن «اكتشافهما» سيسهم في إنهاء أزمته، يبقى التشكيك قائماً في أن الحصص الاساسية ستكون من نصيب الشركات الملتزمة وبعض الجهات المتحاصصة... ولن يحصد اللبنانيون سوى التلوث والخراب.هذه النظرية السوداوية لا تأتي من عدم، وليست ناجمة عن طرق الحكم والادارة السيئة عندنا فحسب، ولا تتعلق فقط بالأثر البيئي للتنقيب، وبالأمن السياسي المهدد بفعل هذه الاكتشافات والصراع حولها. بل هي، أيضاً، نتيجة طبيعية لغياب أي نظرة استراتيجية الى هذا القطاع، ولانعدام دراسة جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والبيئية كافة. فقضايا الطاقة، في لبنان والعالم، تتحكم فيها عوامل متعددة يجب أخذها في الاعتبار قبل الاقدام على أي خيار، سواء بالبدء بالتنقيب، أم بغضّ النظر عنه حتى تبلور ظروف مختلفة.
لوضع استراتيجية للطاقة في بلد كلبنان، كان يفترض درس كل المواقف والإجراءات والسياسات ذات الصلة، من حدث انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ التي يفترض أن يبدأ تطبيقها عام 2020، مروراً بسياسات الاتحاد الأوروبي الذي يخشى من الانتاج الصيني الكثيف للتكنولوجيا الخضراء، واحتجاجات السترات الصفر في فرنسا رداً على إجراءات تتعلق بالتخفيف من الانبعاثات المتسببة في تغير المناخ، وصولاً إلى تجدد الحديث في العالم عن الاقتصاد المنخفض الكربون بعد تزايد الظواهر المناخية المتطرفة حول العالم.
لطالما شكل التطور التقني مدخلا للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية. فالانتقال من طاقة إشعال الحطب والفحم النباتي الى الفحم الحجري أحدث نقلة نوعية في تاريخ الطاقة، ودشّن عالماً صناعياً جديداً لا نزال ندفع ثمن تقدمه حتى الآن من انبعاثات غير مسبوقة لكوكبنا الصغير. وإذ يُروّج دائماً لفرص العمل التي أمّنها هذا التحول، لم يجر التركيز على الأعمال التي ضربها.
في آخر تقرير للوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA)، نشر أخيراً، جاء «أن مصدّري النفط قد يفقدون نفوذهم على المستوى الدولي، فيما سيصبح المستوردون في موضع قوة». كما حذّر من احتمال أن تفقد النظم الاقتصادية التي تنتج النفط والغاز سبعة تريليونات دولار بحلول عام 2040، وأن تنشأ صراعات استراتيجية أوسع. لا شك في أن هذه التقديرات مبالغ فيها كثيراً، مقارنة مع تقارير وكالة الطاقة الدولية التي تؤكد أن الاستثمارات في الطاقة الأحفورية لا تزال في أوجها، لا سيما في البلدان النامية، في السنوات العشرين المقبلة، وبالتالي ستبقى الطاقة المتجددة عاجزة عن أن تكون منافساً جدياً وبديلاً في السنوات القليلة المقبلة، رغم توقع استمرار الانخفاض في كلفة إنتاجها. ولكن، من جهة أخرى، أشارت تقارير نشرتها مجلة «طبيعة» الدولية، أخيراً، الى «التنافس (المحموم) بين الصين والولايات المتحدة، بأسواقهما الضخمة، من أجل الهيمنة على قطاع التكنولوجيا النظيفة». الا أن هذه التقارير تتجاهل ذكر حصة هذه التكنولوجيا من اقتصاد السوق المسيطر، الذي يطلق عليه تسمية «الاقتصاد البني» (نسبة الى لون النفط)، كما تتجاهل حجم الأراضي الضخمة المطلوبة في حال تطور الاعتماد على الطاقات المتجددة (كالرياح والشمس) التي تحتاج ألواحها ومراوحها الى مساحات ضخمة، وما سيتركه هذا التنافس على الأراضي من تبعات على الانتاج الغذائي والامن الغذائي والمائي بشكل عام، فضلاً عن زيادة الطلب على الأتربة النادرة التي تحتاج إليها الصناعات والتكنولوجيا المصنفة «نظيفة»... ما يستدعي تغيير سبل استخدام الطاقة وعدم الاكتفاء بتغيير السياسات الإنتاجية فقط، بمعنى الاعتماد أكثر، أثناء وضع الاستراتيجيات، على نظم جديدة وبديلة تخفّض الطلب والاستهلاك وإنتاج الكربون، بدل الاتكال على نظم تزيد من الاستهلاك.
على المستوى المحلي، كما على المستوى الدولي، يطرح السؤال عن كيفية تمويل الانتقال الى الطاقة النظيفة. ورغم عدم وجود إجماع عالمي على ضرورة إعطاء الاولوية لمعالجة تغير المناخ واعتماد سياسات جديدة وبديلة للطاقة (خصوصاً بعد الانسحاب الاميركي من اتفاقية باريس المناخية)، يفترض ترقب وعود الدول بما سُمّي «الصفقة الخضراء» التي تقضي بتأسيس «صندوق المناخ الأخضر» وضخ 100 مليار دولار فيه سنويّاً، بدءاً من سنة 2020، حسب ما ورد في اتفاقية باريس للمناخ (عام 2015)، إضافة الى وعود ما يسمى أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة والدعوات الى التحول السلس إلى اقتصاد مستدام، والمراهنة على حصول «طفرة تكنولوجية» تعتمد على ثورة في طرق تخزين الطاقة ودمج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في شبكات الطاقة… حتى ذهب البعض الى توقع حصول حرب باردة وتنافس على التقنيات النظيفة والمعادن والأتربة النادرة والكوبالت والليثيوم.
في الحصيلة، على البلدان النامية أن ترصد هذه التحولات والصراعات والمعطيات لبناء استراتيجياتها وسياساتها المستقبلية، والسعي، باكراً، الى اكتساب المعرفة الفنية المتقدمة الخاصة بالطاقة المتجددة، وعدم الاكتفاء - كما يحصل الآن في لبنان - بفتح باب استيراد الأدوات الكهربائية الموفّرة للطاقة، بل المشاركة في صناعتها وتشجيع ذلك عبر سلسلة تشريعات وإعفاءات. هذا الاتجاه يمكن أن يخفف من حدة التنافس على الوقود الأحفوري المحتدم في المنطقة (وسيشتد قريباً مع خيار لبنان البدء بالتنقيب)، ومن جهة أخرى، يسهم في زيادة استقلالية لبنان عن الدول النفطية والدول المتقدمة، وعن الشركات الكبرى المعولمة (وهي الأخطر لناحية استغلال موارد الدول الضعيفة وتخريب أنظمتها البيئية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، وتمنح سكان هذا الكيان الهش المزيد من الشعور بالتضامن والاستقلالية والاكتفاء الذاتي.
الى ذلك، لم يعد ممكناً لبلد يعيش أكثر من 70% من سكانه في المدن، ويعتبر تلوث الهواء القاتل الأول فيه، أن يتجاهل تغيير سياسات الطاقة، إن في قطاع إنتاج الكهرباء أو في قطاع النقل الأكثر استهلاكاً للوقود والاكثر تسبباً في تلوث الهواء وتغير المناخ العالمي. لذا، لا بد من إجراءات لتحسين جودة الهواء عاجلاً أو آجلاً، ولا بد من سياسات مركزية قوية وهادفة وداعمة، وعدم الاكتفاء بالاتكال على ليبرالية السوق وحرية التجارة لتصحيح مسارات إنتاج الطاقة واستهلاكها. كما يفترض الخروج من السياسات المتناقضة في مجال الطاقة، كالادعاء بالاهتمام بما يسمّى «مزيج الطاقة» ودعم برامج «كفاءة الطاقة» وإنتاج الطاقة المتجددة... وفي الوقت نفسه السعي للإسراع في التنقيب عن النفط والغاز!
لم يعد مفهوماً معنى هذه المشاورات و«جلسات الاستماع» التي تعقدها الشركات الكبرى (بالمباشر أو عبر شركات محلية) مع ممثلين عمّا يسمى «المجتمع المدني» لتقييم دراسة الأثر البيئي للتنقيب عن النفط والغاز. وهي في الحقيقة ليست إلا جلسات تطويع وتدريب على تقبل وجود هذه الشركات وأعمالها، عندما تبدأ عمليات الاستخراج والتلوث والسرقة السريعة لموارد كان يفترض أن تبقى خزيناً استراتيجياً لأجيال المستقبل. وتصبح هذه الجلسات فاقدة للمعنى تماماً، حين تتبنّاها إدارات رسمية كان عليها أن تصوغ استراتيجياتها الطاقوية أولاً وتناقشها مع المتابعين والمهتمين، قبل أن تأخذ خيارها بالتنقيب، وقبل أن تحدد لنفسها مهمة تسهيل عمل الشركات في البحر والبر… وفي إقناع المجتمعات بأن «هناك من سيأكلكم سمكاً ويرميكم حسكاً»!