أصاب البطريرك الماروني الراحل مار نصرالله بطرس صفير في علاقته بأربعة رؤساء للجمهورية عاصروا حبريته، ما اصاب اسلافه: التفاهم حيناً والاشتباك مراراً. هو صاحب الحبرية الاطول (25 سنة) بين ثلاثة سبقوه منذ الاستقلال: انطون عريضة وبولس المعوشي وانطون خريش، مترجحة ما بين 11 سنة و20 سنة. تجاوز المعوشي الذي رافق اربعة رؤساء، لكن اقل من عريضة الذي حضر تعاقب 8 رؤساء من الانتداب الى ما بعد الاستقلال. بيد ان اياً منهم لم يُعطَ، كصفير، ان يكون صاحب كلمة مؤثرة في انتخاب رئيس، مثلما تحوّله مرتين الى مرجع مباشر لانتشال البلاد من شغور رئاسي طويل.انضم عريضة الى تأييد تجديد انتخاب بشارة الخوري عام 1948 متأخراً، بعدما اضحى امراً واقعاً. ثم انضم الى حملة معارضيه من غير ان يدعم اسقاطه بالقوة، الى ان قرر الرئيس بنفسه التنحي. حين انتخب كميل شمعون عام 1952، ارسل اليه مع المونسنيور اغناطيوس كيروز رسالة مقتضبة: «سيدنا يوصيك بلبنان». اشارة من سيد بكركي المتقدم في السن معبّراً عن خشيته من مغزى انتخاب «فتى العروبة الاغر».
من بعده، اصطدم البطريرك الخلف، المعوشي، بعنف مع شمعون حيال سياسته الخارجية، وانضم الى مناوئيه في «ثورة 1958»، وفتح صالون بكركي كي يؤم مشايخ مسلمين الصلاة في موعدها وكانوا لا يزالون فيه. وقف ضد محاولة تجديد انتخاب الرئيس، مع ان شمعون لم يجهر بها مرة. كان اقرب الى جمال عبدالناصر منه الى الرئيس اللبناني. بسبب صداقته معه، امكنه في ما بعد انقاذ قس في العراق من حبل المشنقة بحكم اصدره عبدالكريم قاسم، بناء على طلب من الزعيم المصري. فضّل المعوشي عام 1958 عودة الشيخ بشارة الى الرئاسة لخلافة شمعون بدلاً من قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب. أُرغم على الموافقة عليه، وارسى معه علاقة هادئة بالكاد عاشت سنتين، الى ان تحقق من ان النائب البطريركي المطران يوسف الخوري شهابي اكثر مما يحتمل البطريرك، فأبعده الى كرسي صور والاراضي المقدسة واحل محله الكاهن نصرالله صفير الذي اضحى مطراناً ونائباً بطريركياً. مصادفة وضعت صفير على طريق التاريخ.

في تاريخ البطاركة والرؤساء القليل من الود والكثير من الاشتباك(هيثم الموسوي)

مذذاك، الى ما بعد ولاية شهاب، الى ما بعد وفاته عام 1973، نشب عداء استحال رأبه بين المعوشي وشهاب. عندما يزورهما اصدقاؤهما يسمعون البطريرك يتحدث عن هذا الذي «تحت» (جونيه)، والرئيس عن هذا الذي «فوق» (بكركي).
خلافاً لسلفه عريضة وخلفه خريش الوديعين، كان المعوشي صدامياً. يوم وفاة الرئيس السابق رفض ترؤس صلاة الجناز، قبل ان يتراجع تحت ضغوط الزعماء الموارنة والتقليد السائد. استكمالاً لعناده، طلب من صفير ان يكتب رقيماً ويقرأه هو بنفسه في كنيسة مار جرجس المارونية. بعد سنوات طويلة، ادرج صفير الرقيم في كتابه «وغابت وجوه». شأن ما فعل مع شمعون، مانع المعوشي تجديد انتخاب شهاب، مع ان الرئيس رفضه سلفاً.
على نقيض سلفه، لم يسع خريش، صاحب الحبرية الاصغر (11 سنة)، إلى الاضطلاع بأي دور في انتخاب رئيس للجمهورية. سلّم بالياس سركيس مرشح سوريا والجبهة اللبنانية عام 1976، ثم سلّم مجدداً بانتخاب بشير وامين الجميّل عام 1982، ووقف عاجزاً امام الانقسام الدموي بين موارنة الجبل وموارنة الشمال.
تكاد تكون حبرية صفير، وعلاقته باربعة رؤساء عاصروه، عصارة كل ما مضى. بيد ان تجربته غير مسبوقة في الاشتباك مع رؤساء، او في تحوّله مرجع الاحتكام يوم اضحت البلاد بلا رئيس للدولة. اضحى الزعيم السياسي لمسيحيين بلا زعماء.
لم يختبر اي من اسلافه تجربة شغور رئاسي مرتين: اولى عام 1988 عندما دعاه الاميركيون الى وضع لائحة اسماء بمرشحين محتملين، وثانية عام 2007 عندما دعاه الفرنسيون الى لائحة مماثلة. في المرتين لم يؤخذ بهما. بانت ذريعة وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير اضعف من ان يصدقها البطريرك، يوم قال له انه لن يكرر تجربة 1988. حدّثه الوزير عن ضمانات اثبتت لاحقاً عجز حكومته عن ادارة الاستحقاق.
وخلافاً للمعوشي الذي ناوأ التجديد لرئيسين كرههما، وضع صفير حجة بليغة لموقف مشابه، من غير ان يضمر ضغينة. لم يتسامح حيال تمديد ولاية الياس هراوي عام 1995، ثم اميل لحود عام 2004 بمنطق واحد لم يتبدّل: ضد تعديل الدستور لمصلحة فرد. مع ذلك فرض السوريون التمديد. في كل مرة واجه الاستحقاق الرئاسي، امسك بالقاعدة الدستورية: نصاب انتخاب الرئيس هو الثلثان.
لم تكن لصفير الكلمة الفصل في رفض مخايل ضاهر مرشح سوريا لاستحقاق 1988 فحسب، بل كان احد ثلاثة فقط عارفين بالرئيس التالي للجمهورية ما ان ذهب النواب اللبنانيون الى الطائف، وقبل ان يصير الى انتخابه عام 1989: الاثنان الآخران هما الرئيس نفسه رينه معوض ورئيس البرلمان حسين الحسيني. سلّم بانتخاب هراوي، الا انه اهم المرحبين بانتخاب خلفه لحود. بسبب قناة ارساها معه القائد السابق للجيش هي العقيد جورج خوري، أُحيط باكراً علماً بنزوع سوريا الى انتخاب لحود، وكان ثمة تمن سوري بتأييده. يومذاك بسبب ما عُرف عن قائد الجيش ودوره في اعادة بناء الجيش، وشاع ان اعادة بناء الدولة على صورة الجيش، وافق ورحب. في ما بعد، منذ نداء 2000، اضحى البطريرك في مقلب والرئيس في آخر. ساعات بعد اطلاق النداء، في الطائرة من ايران الى بيروت، اعد لحود الرد. في المطار، مستعجلاً، طلب توزيع المعادلة العجيبة آنذاك عن بقاء الجيش السوري في لبنان: «شرعي ضروري موقت».
لم يقل المعوشي باسقاط شمعون بالقوة ابان «ثورة 1958»، ورفض خريش فرض الاستقالة على سليمان فرنجيه عام 1976، ثم من بعد المطالبة بتقصير ولاية امين الجميّل اكثر من مرة عامي 1984 و1986. كذلك فعل صفير عندما رفض اسقاط لحود بزحف شعبي تلاعب بمخيلة قوى 14 آذار عام 2005 على اثر اغتيال رفيق الحريري، في حقبة انقلاب توازن القوى رأساً على عقب، ومغادرة الجيش السوري لبنان.
إبان الشغور الرئاسي مرتين، ملأ البطريرك الزعامة السياسية


بيد انه فعل ما هو ادهى في السنة التالية. قال له: إرحل.
في بيانه الشهري في 2 تشرين الثاني 2005، اعتبر مجلس الاساقفة الموارنة برئاسة صفير الجدل حول بقاء الرئيس او اعتزاله «ادخل البلد في وضع حرج، يوجب أن يُبقي مقام الرئاسة فوق هذا الجدل لئلا يفقد ما يحوط به من هالة وقار واحترام». كرر الموقف نفسه في بيان أول آذار 2006، داعياً الرئيس الى «تحمّل مسؤوليته امام الله والتاريخ». في المدة الفاصلة بين التاريخين، كشف البطريرك في 21 شباط 2006 تردّي هيبة الرئاسة، اذ لاحظ انها «اصبحت خالية تقريباً». لم يطل الوقت خطا علناً الى الامام في الخيار الذي بدا أنه بات اكثر استعداداً للمضي فيه: حض الرئيس لاول مرة على تقدير الموقف الذي يقتضي اتخاذه: بقاؤه في المنصب او مغادرته.
قبل أن يلقي عظة الميلاد في حضور رئيس الجمهورية، مشاركاً في قداس بكركي، في 25 كانون الاول 2005، خاطبه بالقول: «انتم على رأس الدولة تقع مسؤولية قيادة لبنان إلى ما فيه طمأنينة ابنائه، والعمل على المحافظة على الدستور وتحقيق الوحدة الوطنية (...) في هذه الحال يبقى فخامة الرئيس الحَكَم ليرى ما اذا كان بقاؤه أو اعتزاله يفيد البلد أم يسيء الى مصالحه. التاريخ سيسجل على فخامتكم او لكم الموقف الذي ستتخذون لإعلاء شأن الوطن الذي عملتم دائماً في سبيله قائداً للجيش ورئيساً للبنان».
كتب صفير هذا الموقف في الوقت القصير الفاصل عن موعد القداس في ذلك الصباح، بعدما اعدّ بنفسه العظة، ولم يُدرجه في متنها. تعمّد ان يتوجّه به علناً اليه في مقدّم الصفوف. منتصف تشرين الثاني 2006، اوفد نائبه البطريركي العام المطران رولان ابوجودة، مزوّداً كتاباً خطياً يدعوه فيه صراحة الى الاستقالة. الا ان لحود حمّل الاسقف الزائر جواباً شفوياً هو رفض الطلب، واصر على البقاء في منصبه حتى نهاية ولايته.
لم يُكشف عن هذه الخطوة الا متأخراً. الا انها مثّلت الموقف العلني الاول والصريح لبكركي بدعوة رئيس للجمهورية الى التنحي. فاجأ الكتاب الاساقفة الموارنة الذين، شأن قرارات أخرى مماثلة بأهميتها، لم يُحاطوا علماً به.
في وقت لاحق، في 28 ايار 2007، عبّر البطريرك عن مرارة من عدم استجابة الرئيس طلبه بالاعتزال. قال: «ارسلنا اليه كتاباً ولم نلقَ جواباً. قلنا له ذلك عندما كان في القداس في بكركي، ثم ارسلنا اليه كتاباً. في المرة الثالثة ذهبنا اليه. لكننا رأينا أنه لا يمكنه ان يتخذ الخطوة التي عليه أن يتخذها لاسباب لا نريد ان نذكرها».