تبدو الولايات المتحدة كأنها أدركت أخيراً أن شرذمة كنائس الشرق وتفتيتها و«اللعب» بها هو أقصر الطرق وأقلّها كلفة الى الإمساك بأوراق في اللعبة السياسية في المنطقة. في تشرين الأول الماضي، تلقّت الكنيسة الأرثوذكسية ضربة قاسية، برعاية أميركية، بعد اعتراف بطريركية القسطنطينية بكنيسة أرثوذكسية في أوكرانيا منفصلة عن الكنيسة الروسية. تزامن ذلك مع تصاعد الحديث عن محاولات لـ«الفصل الكنسي» بين لبنان وسوريا، عبر إقامة كنيسة أرثوذكسية خاصة بلبنان مستقلة عن الكنيسة الأنطاكيّة، بسبب علاقة كرسيّها البطريركي القوية بالدولة السورية.الخشية انتقلت، اليوم، الى فئات وازنة في الطائفة الإنجيلية، من أن تكون محاولات العبث الأميركية قد وصلت الى المجمع الأعلى للطائفة في سوريا ولبنان، والذي يضمّ 16 كنيسة تختلف لاهوتياً، وفي النظرة الى الكتاب المقدس، وإلى اليهودية كدين.
وتُعزى هذه الخشية إلى أن فرقاً تحيط بها شبهات تهوّد وولاء لليمين المسيحي الأميركي دخلت الى المجمع بعد الانتخابات التي أوصلت القس جوزيف قصاب إلى رئاسته في 18 كانون الثاني الماضي خلفاً للقس سليم صهيون. الأخير بقي في هذا المنصب نحو 35 عاماً، وأُعيد انتخابه دوماً بالتوافق والتزكية، فيما انتُخب قصاب بعد «معركة ترشيحات، انتهت بإخلاء الساحة أمامه إثر ضغوط مورست على مرشحين منافسين نتيجة فائض قوة الدعم الذي تلقّاه من فرق إنجيلية انضوت في المعركة وتمثّلت في المجمع الجديد للمرة الأولى. وهي مجموعات ممنوعة من العمل في سوريا، ويحيط بعملها في لبنان بعض الالتباسات»، وفق ما يؤكّد فاعلون من أبناء الطائفة في البلدين لـ«الأخبار». ويتوجّس هؤلاء من أن «يتأثّر المجمع بمال هذه الفرق والدعم الأميركي الذي تتلقّاه ويتنازل عن دوره الرياديّ السياسي والوطني»، وبالتالي «تقوية دور هذه الفرق على حساب الكنيسة المشيخية (الأكبر في المجمع)، لحسابات قد تكون مرتبطة بأجندات خارجية، وبمقاصد بعيدة عن الدور الوطني الذي رسمه السينودوس الإنجيلي الوطني في سوريا ولبنان لنفسه منذ تأسيسه. وعندها، بدل أن تؤثر الكنيسة المشيخية في الكنائس الأخرى سياسياً ووطنياً، قد تكون عرضة للتأثر بأفكار هؤلاء». الأخطر، برأي هؤلاء، أن هذا كله يتزامن مع تبرعات كنسية بمبالغ كبرى لإعادة بناء دُور العبادة التي هدمتها الحرب في سوريا، «وهو باب قد يدخل عبره كثير من المغرضين»، فضلاً عن «محاولات سُجّلت من داخل المجمع أخيراً لوقف عمل بعض القساوسة في سوريا ممن عملوا بشكل وثيق في الفترة السابقة مع الجيش السوري وقوات الدفاع الوطني دفاعاً عن كنائسهم في وجه الجماعات الإرهابية».
المتوجسون من «العبث الأميركي» يأخذون على قصّاب «مواقف أقرب الى المعارضة» في بدايات الأزمة السورية. ويلفتون الى أن رئاسته للمجمع تأتي مقرونة بمفاتيح قوة لم تتوافر لسلفه. فإلى منصبه الجديد، لا يزال يشغل منصب الأمين العام للسينودوس الإنجيلي في سوريا ولبنان (وهو من المناصب الرفيعة في الطائفة)، إضافة الى مناصب أخرى، من بينها رئاسة الجمعية الإنجيلية اللبنانية للمدارس المشتركة، وعضو اللجنة التنفيذية في مجلس كنائس الشرق الأوسط، وعضو مجلس الأمناء في الجامعة الأميركية اللبنانية... ما يجعله الرجل الأقوى في الطائفة. «وربط الطائفة بشخص واحد عرضة للأهواء والإغراءات، بغضّ النظر عن مناعته، أمر خطير جداً، وطارئ على الطائفة التي كانت سبّاقة منذ تأسيسها الى نشر الروح الديموقراطية وتداول الأدوار».
مخاوف من تصاعد دور فرق مرتبطة بأجندات خارجية في المجمع على حساب الكنيسة المشيخية ذات التوجهات العروبية


ومعلوم أن أكبر فرق المجمع هو السينودوس الإنجيلي المشيخي في سوريا ولبنان (أنشئ عام 1920 لتنظيم عمل الكنائس الإنجيلية في سوريا ولبنان بعد اعتراف نظام الملل العثماني بهذه الكنائس عام 1848). وهو يتبع للكنيسة المشيخية الأمّ (في الولايات المتحدة) التي تعتمد العلم والمقاربات النقدية للنصوص، وتختلف عن كنائس إنجيلية أصولية أُخرى في النظر الى اليهودية وفي التحذير من خطورتها، ما انعكس على مواقفها من قضايا المنطقة رغم ضغوط اللوبي الصهيوني القوي في واشنطن (زار وفد من الكنيسة المشيخية ضم قساوسة من الولايات المتحدة والسويد وسويسرا ولبنان وسوريا الرئيس بشار الأسد في 18 كانون الثاني 2014 متضامناً ورافضاً التدخلات الخارجية في سوريا). كما انعكس في مواقف المجمع من المواقف الوطنية (إيواء النازحين في عدوان تموز 2006 وإدانة اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل...).
وإلى الكنيسة المشيخية (السينودوس الإنجيلي المشيخي في سوريا ولبنان)، تنشط في سوريا، تحت سقف المجمع، كل من الكنيسة المعمدانية والكنيسة الاتحادية والكنيسة الناصرية وكنيسة الله وكنيسة بلودان الإنجيلية والكنيسة الكتابية (تابعة للنائب اللبناني القس إدغار طرابلسي). هذه الكنائس نفسها تنشط أيضاً في لبنان إلى جانب كنائس إنجيلية أخرى لا وجود لها في سوريا، مثل اتحاد الكنائس الإنجيلية الأرمنية، وكنيسة بيروت الوطنية، وكنيسة الاخوة، والكنيسة الحرة، وكنيسة السبتيين، والكنيسة الأسقفية. وفيما تميّزت الكنيسة المشيخية واتحاد الكنائس الإنجيلية الأرمنية وكنيسة بيروت الوطنية عن غيرها، تاريخياً، بإدراك مخاطر الصهيونية واليهودية الدينية. فإن جماعات أخرى، مثل «السبتيين» و«الاخوة»، تحيط بهم شبهة التهوّد والتعاطف مع اليمين المسيحي الموالي للصهيونية.

قصّاب: كل الانجيليين في المجمع يعتبرون اسرائيل خطراً وشرّاً

أكّد رئيس المجمع الأعلى للطائفة الإنجيلية في لبنان وسوريا القس جوزيف قصّاب لـ«الأخبار» أن «ما من إنجيلي في المجمع لا يعتبر إسرائيل خطراً وشرّاً»، مقلّلاً من أهمية «التهويل الذي يمارسه حاقدون». وأكّد أن الكنائس الإنجيلية كنائس وطنية، لا مرجعيات خارجية لها.
في ما يلي نص الحوار:




بعد الانتخابات الأخيرة، هناك كلام عن انضمام فرق الى المجمع لم تكن تنضوي فيه سابقاً، وهي فرق محظور نشاطها في سوريا وتحيط التباسات بعملها في لبنان؟
هذا ليس صحيحاً. من دخل حديثاً هي فرق انشقّت عن فرق موجودة في المجمع منذ زمن طويل، كالمعمدانيين الذين خرج منهم معمدانيون انضموا الى المجمع. هذا الكلام يشكّل إساءة ويروّجه حاقدون.

ماذا عن «السبتيين»؟
«السبتيون» موجودون في المجمع منذ أربعينيات القرن الماضي.

و«الاخوة»؟
«الاخوة» أيضاً موجودون منذ زمن. إلقاء التهم جزافاً أمر مؤسف، وكأن المطلوب إخضاع الناس لفحص دم يومياً.

لماذا عدد الكنائس المنضوية في المجمع المعترف بها في سوريا أقل من تلك المعترف بها في لبنان؟
قانوناً، الدولتان تعترفان بكل كنائس المجمع.

بمن فيهم «السبتيون»؟
لا. حدثت تصرفات في خمسينيات القرن الماضي أدت الى وقف عملهم هناك. هذا لم يحصل في لبنان. حرية المعتقد والعبادة أمر مقدس، ولا يمكن أحداً أن يسلب هذه الحرية من أحد. لكننا نتبع القوانين المعمول بها في كل دولة ولا نعيش في جزيرة. ما حدا فاتح على حسابو.

سجّلت أخيراً تدخلات أميركية أدّت الى انفصال كنائس كما في أوكرانيا وروسيا ومساعٍ لفصل الكنيسة الأرثوذكسية في لبنان عن البطريركية الأنطاكية. ألا تخشون على كنيستكم من تدخّل كهذا؟
الإنجيلية مروحة عريضة، والكنائس الإنجيلية كنائس وطنية. ليس لدينا بطريركيات في الخارج أو فاتيكان نتبع له. نحن كنائس موجودة في المنطقة الجغرافية التي نوجد فيها ولا ارتباطات خارجية لنا. هذا لاهوتنا. بالطبع، هناك أناس يشبهوننا في الخارج، لكن لا يتدخلون بنا ولا بقراراتنا. اسم كنيستنا «السينودوس الإنجيلي الوطني في سوريا ولبنان»، ونقطة على السطر.

أليس هناك إمكانية لأن تؤثر في المجمع بعض الفرق المتأثرة بإنجيليين أميركيين تابعين لليمين المسيحي؟
اليمين المسيحي في الولايات المتحدة مثل اليمين المسيحي هنا. يمينيّته مقتصرة على فهمه الحرفي للكتاب المقدس بعهدَيه القديم والجديد، شأنه شأن بقية الأديان والطوائف ممن لديهم نصوص مقدسة ويختلفون في طريقة تفسيرها. هذا تهويل على الإنجيليين ونوع من البروباغندا يسوّقه أصحاب نيّات مبيّتة. لم أر أي إنجيلي في المجمع لا يعتبر إسرائيل خطراً أو شرّاً. بالتأكيد، في الخارج هناك يمين إنجيلي، ونحن ضده وضد تفسيراته. هذا أمر معلن في لاهوتنا، وفي كنيستنا المشيخية بالذات التي ترأس المجمع منذ عام 1963، وكذلك في الكنيسة المثيلة لها في أميركا، والتي يمكن مراجعة مواقفها من احتلال العراق ومن القضية الفلسطينية والاستيطان ومن الجماعات الإرهابية. إثارة مثل هذه الأمور وراءها بعض الحاقدين من داخل الكنيسة.

يؤخذ عليك احتفاظك بعدة مناصب رفيعة في الطائفة الى جانب رئاسة المجمع، من بينها الأمانة العامة للسينودوس على عكس سلفكم؟
هذا غير صحيح. القسّ سليم صهيون كان أميناً عاماً للسينودوس ورئيساً للمجمع في الوقت نفسه من 1983 الى 1996، عندما طلب التقاعد المبكر من السينودوس ليتفرغ لأعمال المجمع. مجمعنا مؤلّف من 16 كنيسة متنوعة، والأمور تتم بديموقراطية وشفافية بما لا يدع مجالاً للاستئثار.

هناك كلام عن ضغوط مورست على مرشحين لرئاسة المجمع لسحب ترشيحاتهم؟
هذا غير صحيح أبداً. يمكنكم سؤال من ترشحوا، ومنهم القسيس حبيب بدر وهو رجل محترم وله مكانته، إن كانوا قد تعرضوا لأي ضغوط. على العكس من ذلك تماماً. فقد بادر القسيس بدر الى سحب ترشحه لتفادي أي انقسام. الانتخابات جرت بالتزكية بسبب علاقاتنا الجيدة مع الكنائس. بالتأكيد، كل انتخابات لها حساباتها، ولكن من سيضغط على مَن، وبأيّ وسيلة وبأيّ حجة؟ العملية في كنائسنا ديموقراطية، وليس هناك أي إمكانية لمثل هذه الأمور.