لا أحد أكثر حرصاً من الرئيس سعد الحريري على تشكيل الحكومة اللبنانية. في رئاسة الحكومة، يستعيد الحريري ما خسره في الانتخابات النيابية الأخيرة بوصفه الزعيم السنّي الأقوى بين حيثيات سنيّة لا زعامات، ويثبّت حاجة النظام اللبناني الحالي إليه: شريك الرئيس «المسيحي القوي» ميشال عون، وخيار رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، حارس اتفاق الطائف، وضامن حقوق الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. واليوم، بات الحريري بمثابة عامل التوازن الأول مع حزب الله أمام الخارج، الذي يتربّص شرّاً، وأمام الداخل الذي نجا من الانفجار طوال السنوات الماضية. وفي رئاسة الحكومة أيضاً، يبقى الحريري قبلة السّنة اللبنانيين، الذين لا يرغبون بذات المصير الذي ينتظر السنيّة السياسية في محيط لبنان.والأهم، أن رئاسة الحكومة تحمي الحريري من السعودية. في تشرين الثاني الماضي، تصرّف السعوديون بصفاقة مع رئيس حكومة لبنان، لأن الحريري بالنسبة إليهم لم يكن يؤدّي الوظيفة المطلوبة منه، أي مواجهة حزب الله في الداخل. وجراء تلك الهمجية السعودية، والفضيحة الدولية الناتجة منها، حاز الحريري غطاءً دولياً أميركياً - فرنسياً، علّه يسلّف الأميركيين ببطء هذه المرّة، ما عجز عن تسليفه للسعوديين، في مواجهة حزب الله وفي جرّ لبنان الرسمي وتهيئته للدخول في صفقة القرن أيضاً، وتلك حكاية وحدها، من الـ«نزاع» الحدودي مع العدو الإسرائيلي، إلى ملفّ اللاجئين الفلسطينيين والمرحلة الأخيرة من مشاريع توطينهم في لبنان والأردن، إلى أزمة النزوح السوري وملفات التنقيب عن النفط والغاز ووقوع لبنان على خطوط «حزام وطريق» الصينية الجديدة.
لا يُحسَد الحريري اليوم على الواقع الذي يحيط بزعامته ودوره. لم يرث الحريري زعامة والده فحسب، بل زعامة السّنية السياسية في لبنان وأبرز مكتنزاتها، اتفاق الطائف. الحريري اليوم رمز اتفاق الطائف، تماماً كما يشكّل عون نقيضاً للاتفاق ورمزاً لمرحلة التحوّلات في قلب النظام القديم، لم تتضح نتائجها بعد. فالصراع على الحقائب الوزارية اليوم، حين يأخذ شكل التعنّت، ليس تناتشاً للعوائد الباقية في الوزارات وإدارات الدولة المركزية فحسب، بل صراع على النفوذ وتأسيس للمرحلة المقبلة في تثبيت حصّة كلّ فريق سياسي داخل النظام بما يمثّل من تحالفات خارجية.
وهنا بيت القصيد. لم يعد مجدياً ربط تأخير تشكيل الحكومة بالعوامل الداخلية. هي أصلاً عوامل لها أبعادها الخارجية منذ اليوم الأول، مثلما كان استحقاق الانتخابات النيابية، داخلياً بأبعاد خارجية. لبنان اليوم صار واقعاً على الخريطة الإقليمية، كجزء أساسي من لوحة «البازل» التي لم تكتمل بالإقليم بعد. ثمّة قوى إقليمية ودولية تتصارع على النفوذ، ولبنان واحد من هذه الساحات. في السنوات الماضية، كلّما تعقد الوضع الداخلي، لجأ الخارجيون إلى تسوية تحيّد لبنان، على أساس أنه آخر ساحات «اللاصراع» ومساحة للأخذ والرّد. كل المعطيات لدى المعنيين بالشأن اللبناني تؤكّد أن لبنان لم يعد كذلك، بل ساحة لإثبات النفوذ، وأوائل الطامعين السعوديون. والاحتجاز الذي عاناه الحريري قبل فترة، لا يقارن بالسجن الكبير الذي وضع فيه الآن. خيارات الرئيس المكلّف محدودة: لا تقدّم بالحكومة، ولا تراجع عن التكليف، بانتظار أمر الديوان الملكي. تصريف الأعمال الآن أفضل الممكن. على الأقل، يعيش لبنان في بحبوحة أمنية منذ سنتين. اللهم بلا حسد.