لم تصمد المقاربة الإسرائيلية أمام الإملاء الأميركي طويلاً، في أولى أيام العمليات العسكرية الإسرائيلية في تموز عام 2006. إرادة الاحتلال الإسرائيلي اتجهت إلى «تدفيع» حزب الله ثمن عملية الأسر، وتعزيز الردع الذي بات مثقوباً في أعقابها وبسببها، فيما كان الموقف الأميركي الضاغط متلهفاً لـ«كسر وسحق» حزب الله، عبر حرب عسكرية اجتثاثية، تمهِّد لتغيير كبير جداً في المنطقة انطلاقاً من الساحة اللبنانية.توجه واشنطن الدافع إلى «تطوير» الموقف الإسرائيلي وتنميته من «تدفيع الثمن» إلى «الاجتثاث»، لم تخفه واشنطن في حينه، وكشفت غاياته عبر تصريحات كبار المسؤولين فيها. وزيرة الخارجية الأميركية في حينه، كونداليزا رايس، ربطت بين أهداف الحرب وغاياتها، وإنتاج «شرق أوسط جديد».
لا يعني ذلك أن إسرائيل كانت ترفض الطلب الأميركي، فجرى الضغط عليها لمباشرة حرب لا تعتقد أنها قادرة على خوضها، بل جاء الطلب من جهتها، تسريعاً لخيار، كان بالإمكان الانتظار أكثر قبل مباشرته، على أن يأتي ذلك بعد اتضاح فشل الخيارات البديلة الأخرى غير العسكرية في مواجهة حزب الله. من جهة إسرائيل، كانت القدرة على تحقيق المهمة وإنجاز الغاية و«سحق» حزب الله، في متناول اليد ولا تخرج عن القدرة الإسرائيلية، بل كانت محفورة عميقاً في الوعي الجمعي، ليس لدى الجمهور الإسرائيلي وحسب، ربطاً بالدعاية الإعلامية والإرث التاريخي في التفوق العسكري على العرب، بل محفوراً في وعي قادة المؤسسة الأمنية وكبار ضباطها. فكان أن تمت المسارعة إلى قبول الطلب الأميركي، والمباشرة في «سحق» حزب الله!
مع ذلك، كانت المفاجأة كبيرة جداً، لدى إسرائيل نفسها، ولدى الأصيل الأميركي. «تغيير الاتجاه»، التسمية الجديدة للعمليات العسكرية الإسرائيلية، فشلت في تحقيق الهدف منها، فكان قرار الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، تعديل الخطط العسكرية، كما إطلاق تسمية جديدة للعمليات: «تغيير اتجاه 2. هذا الأمر عاد وتكرر لاحقاً وطوال فترة الحرب، وصولاً إلى «تغيير اتجاه 11»، في نهاية الحرب التي شملت دخول أربع فرق عسكرية إلى عمق الأراضي اللبنانية. «التغييرات» كلها، كانت تعني أن إسرائيل تلقت في الحرب 12 فشلاً ميدانياً مباشراً استدعى منها تعديلات في الخطط الموضوعة. ويعود الرقم 12 إلى خطة هجينة حشرت بين خطتين: «تغيير اتجاه 8.5»، لكن كغيرها، لم تحقق النتيجة الموضوعة لأجلها.
المهمة فشلت. الحرب كما خطط لها فشلت، رغم الاستئنافات والتعديلات وتغيير المهمات و«الاتجاه» 12 مرة. وظهّر الفشل صورة مغايرة لإسرائيل صاحبة القدرة العسكرية التي بإمكانها فرض إرادتها عبر آلتها العسكرية، بل عبر مجرد التهديد بها. صورة مغايرة تماماً لما كان ملتصقاً في وعيها هي ووعي جمهورها وأصحاب القرار فيها، كما في وعي حلفائها ورعاتها إزاء دورها الوظيفي في المنطقة وعبرها.
«دولة إسرائيل التي كانت تشعر لغاية تموز بأنها دولة عظمى، عادت لتصبح دولة صغيرة محاطة بالأعداء»


وعلى أهمية اكتشاف محدودية قدرة إسرائيل في فرض إرادتها عسكرياً على أعدائها، إلا أنه واقع يمكن العمل على الحدّ من أهم تداعياته، أي صورة الفشل الإسرائيلي لدى حزب الله ومحور المقاومة عموماً. فأن ينسحب الاكتشاف على «العدو»، من شأن ذلك أن يضاعف التداعيات وسلبياتها أضعافاً، ليس في ما يتعلق بنتيجة الحرب نفسها وحسب، بل بأصل ميزان القدرة بين الجانبين، كأطراف في محورين متصارعين في المنطقة، مقبلين، ولو مع أرجحيات مرتفعة، على صراعات متتالية، أهم ما في ميزانها لجهة الجانبين، صورة الاقتدار المكونة لدى طرف عن الطرف الآخر.

(أرشيف)

هذه النتيجة لم تقف على حدود الحرب وأيامها الثلاثة والثلاثين، ولم تنته مع انتهائها. نتيجة ممتدة ومؤثرة، ويثبت استمرار تأثيرها عاماً بعد عام. ولولا انكشاف إسرائيل على ذاتها وانكشافها على أعدائها، لباشرت ما كانت تعتاده في العقود الماضية من عمليات واعتداءات، تكبر وتصغر بحسب مصالحها وأهدافها، الأمر الذي بات ممتنعاً عن الساحة اللبنانية، بما يسميها البعض «الإنجاز الإعجازي» حيال العدو.
في عام 2007، أي بعد سنة من حرب تموز، صدر كتاب عن دور «معاريف» بعنوان «نيران على قواتنا»، يُعَدّ من أهم الكتب العبرية المنشورة عن حرب عام 2006. ورغم أهمية ما يرد في الكتاب من تفاصيل عن تعقيدات الحرب و«ويلاتها» من جهة الإسرائيليين، إلا أن أهم ما يرد فيه، جاء في الخلاصات: «غيرت حرب لبنان الثانية وجه البلاد. دولة إسرائيل، التي كانت تشعر لغاية تموز، بأنها دولة عظمى، عادت لتصبح دولة صغيرة محاطة بالأعداء. تكشفت نقاط ضعف جيل، وتحطمت مفاهيم».
غيرت الحرب إسرائيل كما يرد في كتاب «معاريف»، وغيرت مفاهيمها حول قدراتها. فقد تبين لصانع القرار في تل أبيب أن الحرب لم تعد هدفاً يعمل من خلاله على تحقيق المصالح، بعد أن أثبتت حرب عام 2006، عدم جدوى الحروب الإسرائيلية بعد الآن في تحقيق الأهداف. الأمر الذي دفعها إلى تغيير الاتجاه، كما دفعها إلى تبني مقاربة مغايرة في العقيدة الأمنية والقتالية، تسعى من خلالها إلى إلغاء الحرب أو إبعادها إن أمكن. هذه هي أهم نتيجة من نتائج حرب عام 2006، وأهم ما تبلور في الوعي الإسرائيلي حولها وبسببها. وهذه العقيدة التي باتت معروفة تحت اسم «المعركة بين الحروب»، هي إقرار إسرائيلي، وإن بعنوان وتسمية منمقين، بأن لا فائدة ولا جدوى من الحروب، بعد تعذُّر تحقيق نتائجها، في مواجهة عدو كحزب الله.
كان الموقف الأميركي الضاغط متلهفاً لـ «كسر وسحق» حزب الله، عبر حرب اجتثاثية تمهد لتغيير كبير في المنطقة


في إقرار نادر للمسؤول الأميركي المباشر عن الحرب الإسرائيلية - الأميركية على لبنان عام ٢٠٠٦، إليوت أبرامز، جملة حقائق أُريد طويلاً إبقاءها خارج التداول الإعلامي، وهي ترتبط بأهم ما تعرضت له إسرائيل والولايات المتحدة، بسبب فشل الحرب على حزب الله: انكشاف محدودية قدرة الوكيل الإسرائيلي، على إنجاز وظيفته الرئيسية في المنطقة: القضاء على الأعداء بالوكالة عن الأميركيين، وبالأصالة عن إسرائيل نفسها.
ففي مقالة لأبرامز، (مذكرة رقم 167 - معهد دراسات الأمن القومي ، تموز 2017)، الذي شغل في حرب عام 2006 منصب نائب مستشار الأمن القومي الأميركي، والمسؤول عن السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، وعملياً ممثل الإدارة وموفدها لإدارة الحرب آنذاك من تل أبيب، يكشف أبرامز جملة من أهداف الحرب، مقابل حقائق تكشفت، كانت صادمة للإدارة الأميركية:
كما هي الحال مع أغلب الدول الأوروبية ومع دول عربية، افترضنا (في الإدارة الأميركية) أن الجيش الإسرائيلي سيوجه ضربة سريعة وقاسية إلى حزب الله، وهو ما كان سيشكل مزايا عدة للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
كان من شأنه إضعافه في الساحة الداخلية اللبنانية وتعزيز حكومة (رئيس الحكومة اللبنانية السابق) فؤاد السنيورة، المدعومة من الولايات المتحدة.
تبين أن دولاً عربية كانت تنتظر هزيمة واضحة وحاسمة لحزب الله، ودبلوماسيون عرب، بأعداد كثيرة، أيدوا الجيش الإسرائيلي في محادثات مغلقة.
عارضت الإدارة الأميركية وقفاً لإطلاق النار، لأنها أرادت ضربة (قاصمة) لحزب الله عبر الجيش الإسرائيلي. وأي وقف سريع لإطلاق النار، كان يعني تعذر التوصل إلى تغيير فعلي في الوضع.
الواقع الجديد بدأ يتضح بعد مرور أسبوعين على بدء الحرب، وعجز الجيش الإسرائيلي عن إلحاق الهزيمة بحزب الله، بخلاف ما توقع الجميع.
لغاية الأسبوع الثالث من الحرب، الحلّ الذي حاولت الولايات المتحدة دفعه قدماً، أخذ بالتلاشي عندما تبين أنه لن يكون هناك نصرٌ إسرائيلي.
عندما كنا نلتقي به (إيهود أولمرت)، اعتاد القول: «أنا بحاجة لعشرة أيام أخرى»، من أجل إلحاق ضربة حقيقية بحزب الله. لكن في اللقاء الذي يلي، أي بعدها بخمسة أيام، يعود ليكرر نفس الجملة: «أنا بحاجة لعشرة أيامٍ أخرى». ومن ناحية عملية، لم يبرز أي دليل، حتى دليل واحد، على أنه بالفعل قادر على توجيه ضربة قاسية ومهمة إلى حزب الله، حتى لو مُنح مزيداً من الوقت. هذه المسألة، تحديداً، هي النقطة الحاسمة التي قوّضت منطق استمرار القتال.