من المسلَّم به أن معظم الاستعدادات للانتخابات النيابية تجري بعيداً عن أي شعارات سياسية، ما دامت أغلبية القوى السياسية ارتضت أن يتحالف بعضها مع بعض، لتحقيق الوصول إلى المجلس النيابي، بغضّ النظر عن نقاط الالتقاء بينها. وبعيداً عن النكات المتداولة حول طبيعة التحالفات، ثمة خطورة في أن الملهاة الانتخابية، وغياب الخطاب السياسي عن المشهد الانتخابي، جعلا القوى السياسية تتغاضى عن كثير من القضايا الساخنة التي يشهدها لبنان اليوم، فيما يفترض أن تؤدي هذه القضايا إلى قيام معارضة حقيقية، لا تشبه بشيء التحالفات الحالية.من مؤتمر باريس 4 والمخاوف منه على أكثر من صعيد، إلى كلام الرئيس سعد الحريري في مؤتمر الطاقة الاغترابية، والمادة 50 من قانون موازنة عام 2018، وصولاً إلى الغارة الإسرائيلية على مطار تي فور في ريف حمص ومرور الصواريخ فوق لبنان، والقلق الإقليمي من تداعيات التطورات في المنطقة، يبدو المشهد المحلي غارقاً في تفاصيل الانتخابات، إلى الحد الذي تغيب فيه أي مناقشة حقيقية، بحجة عدم تسخين الجبهات الداخلية وحماية التحالفات الانتخابية.
فهل كان يمكن أن يمرّ مؤتمر باريس 4 مع كل الديون التي ستثقل كاهل لبنان، من دون أن تقوم القيامة في لبنان، كما جرت العادة مع مؤتمرات باريس السابقة والحملات المضادة التي كانت تواجه الحكومات السابقة حين كانت تلجأ إلى سياسة الهروب إلى الأمام في الاستدانة مرة تلو أخرى. وهل يمكن أن يتحول حزب الله معارضاً شبه وحيد لما ينتج من هذه المؤتمرات الدولية وشروطها، فيما تحفل صورة باريس بالوجوه الرئاسية والوزارية والاستشارية، ويشرب جميع الحاضرين والغائبين نخب الاستدانة؟ وأين هي أصوات السياسيين المعارضين والاقتصاديين والاختصاصيين الذين كانوا يعترضون عادة على أيّ نهج يشبه ذلك الذي جرى في باريس قبل أيام قليلة، لولا التحالفات التي دجنت البعض وحولت البعض الآخر إلى أصوات تؤيد العهد والحكومة المقبلة سلفاً؟
الأخطر في ما جرى في مؤتمر باريس 4، ليس اقتصادياً بحتاً، إذ تنتقد أوساط سياسية بشدة نتائج المؤتمر، لأنه لا يمكن عزله عن جملة مؤشرات اقتصادية وسياسية مهمة. وهذا هو الأهم، كقضية النزوح السوري في لبنان. وتسأل ما هي الأسباب الحقيقية وراء وعود هذه الدول كلها بدعم لبنان وإقراضه مبالغ خيالية، فيما تصفه بوضوح بأنه بلد مفلس و«ساقط» مالياً واقتصادياً، وقد حفلت كل نقاشات الحاضرين غير اللبنانيين فيه بانتقادات حادة عن الفساد المستشري في لبنان ولدى المسؤولين فيه (الذين زايدوا في المحاضرة عن الفساد). وهل يمكن دولةً مفلسة وفاسدة إلى الحد الذي قيل عن لبنان في باريس 4 أن تحظى بكل هذه الوعود بالدين، من دون شروط وصفقات جانبية. وتثير هذه الأوساط المخاوف من ربط ما يحصل بصفقات سياسية دولية تتعدى ما ذكر في الخطب الرسمية للمؤتمر، لجهة بقاء النازحين السوريين في لبنان. علماً أن كلاماً واضحاً سبق أن قيل في مؤتمرات سابقة يتعلق بالعمالة السورية، من نازحين وغير نازحين، ودورها الحيوي في عمليات النهوض الاقتصادي في لبنان، إلى حد الاشتراط على لبنان حينها تقديم المساعدة مقابل إدخال السوريين في سوق العمل. وتطرح هذه الأوساط مزيداً من الأسئلة عن التوقيت الذي صادف انكشاف جملة ملفات دفعة واحدة، ومنها ربط باريس، الذي يهمّ الدول المشاركة فيه تخفيف ضغط المهاجرين النازحين إليها، بتعهدات سياسية قد تكون جرت على هامشه، لاستيعاب لبنان ملفات حساسة تدريجاً، مع اللافت أن ذلك تزامن مع النقاش حول المادة 50 من الموازنة والكلام الذي استسهل فيه الحريري من باريس أيضاً انعكاس قضية النازحين، من دون أي ردّ فعل محلية معارضة.
هل كان سيمرّ كلام الحريري عن النازحين السوريين، مرور الكرام، لولا التسوية الرئاسية؟


هل كان يمكن أن يمرّ كلام الحريري في مؤتمر الطاقة الاغترابية عن وضع النازحين السوريين، مرور الكرام، في حشد من اللبنانيين الذين كانوا أول من وقف ضد النزوح السوري إلى لبنان، لولا الاتفاق الرضائي بين العهد والحريري، ولولا بعض شبهات بدأت تحوم حول ما يطلبه المجتمع الدولي من لبنان لإبقاء النازحين على أرضه. وهل خففت المطالب الدولية، والاتفاقات المحلية، من انعكاسات كلام الحريري، الذي ألغى بعبارة واحدة الانعكاس السلبي لوجود مليون ونصف مليون نازح سوري على المستويات السياسية والأمنية والاجتماعية كافة، إلى الحد الذي حصد التصفيق من لبنانيي فرنسا، وهو يحصر المشكلة بأنه «لو كان هناك كهرباء 24 ساعة وإصلاحات وتعرفة مناسبة واتصالات وطرقات أفضل، لكانت الأمور أفضل ولم نكن لنقع في هذه المصيبة».
هل كان كلام البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي عن خطورة المادة 50 من موازنة عام 2018 وتساؤله عمّا إذا كان ذلك مقدمة للتوطين والتجنيس خلافاً للدستور، ليقابل بالصمت من أكثر الأوساط السياسية معارضة للتوطين والتجنيس، لو لم ينعقد باريس 4 بوعوده، ولو لم تكن الانتخابات اليوم على الأبواب، وتقتضي التحالفات غضّ النظر عن ملفات حساسة يمكن أن تثير الحساسيات لدى جماهير لا يجمعها سوى لوائح هجينة؟ ولماذا لم نسمع بردود فعل على مستوى القيادات التي كانت لأشهر ماضية تحمل لواء رفض التوطين والتجنيس، وتعارض حتى بيع الأراضي لغير لبنانيين؟
إذا كانت الغارة الإسرائيلية مروراً بسماء لبنان، لم تلقَ ردّ الفعل المطلوب محلياً لدى معظم القوى السياسية، فذابت مفاعيلها وسط غابات صورة المرشحين وخطبهم، مبررة بأنه موضوع إقليمي بحت، فهل يكون لديون باريس والمادة 50 من الموازنة وتسهيل إقامة النازحين السوريين، تبريرات سياسية محلية، بحجة النهوض الاقتصادي، من دون أن نجد أصواتاً معارضة تضع كل ذلك مادة للنقاش السياسي للضغط على الحكومة للحصول على أجوبة واضحة؟